فصل: حُكْمُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم بَيْنَ الزوجين يَقَعُ الشِّقَاقُ بينهما

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: زاد المعاد في هدي خير العباد **


فصل‏:‏ في حُكمه صلَّى الله عليه وسلَّم في ثُبوتِ الخيارِ للمعتَقة تحتَ العبدِ

ثبت في ‏(‏الصحيحين‏)‏، والسنن‏:‏ أن بَرِيرَةَ كاتبت أهلَها، وجاءت تسألُ النبىَّ صلى الله عليه وسلم في كتِابتها، فقالت عائشةُ رضى الله عنها‏:‏ إن أحَبَّ أهلُك أن أعُدَّها لهم، ويكونُ ولاؤك لى فعلتُ، فذكرت ذلك لأهلها، فأبَوْا إلا أن يكونَ الولاءُ لهم فقال النبىُّ صلى الله عليه وسلم لعائشة رضى الله عنها‏:‏ ‏(‏اشْتَرِيها واشْتَرِطى لَهُمُ الوَلاءُ لِمنْ أعْتَقَ‏)‏، ثم خطبَ الناسَ فقال‏:‏ ‏(‏مَا بَالُ أقْوَامٍ يَشْتَرِطُونَ شروطاً لَيْسَتْ في كِتَابِ اللَّهِ، مَنِ اشْتَرَطَ شَرْطاً ليْسَ في كِتَابِ اللَّهِ، فَهُوَ بَاطِلٌ، وإِنْ كَانَ مِائَة شَرْطٍ، قَضَاءُ الله أحَقُّ، وشَرْطُ اللَّهِ أوْثَقُ، وإِنَّمَا الولاء لِمَنْ أْعْتَقَ‏)‏، ثم خيَّرها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بين أن تَبْقَى على نكاح زوجها، وبين أن تَفْسَخَهُ، فاختارت نفسَها، فقال لها‏:‏ ‏(‏إنَّهُ زَوْجُكِ وأبُو وَلَدِكِ‏)‏، فقالت‏:‏ يا رسولَ الله، تأمُرُنى بذلك‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏لاَ، إِنمَا أَنَا شَافِعٌ‏)‏، قالت‏:‏ فلا حاجة لى فيه، وقال لها إذْ خيَّرها‏:‏ ‏(‏إن قَرُبَكِ، فلا خِيارَ لك‏)‏، وأمرها أن تعتد، وتُصُدِّقَ عليها بلحم، فأكل منه النبىُّ صلى الله عليه وسلم وقال‏:‏ ‏(‏هُوَ عَلَيْها صَدَقَةٌ، ولَنَا هَدِيَّةٌ‏)‏‏.‏

وكان في قِصةِ بريرة من الفقه جوازُ مكاتبة المرأة، وجوازُ بيعِ المكاتبِ وإن لم يُعجِّزْه سِّيدُه، وهذا مذهبُ أحمد المشهورُ عنه، وعليه أكثرُ نصوصه، وقال في رواية أبى طالب‏:‏ لا يطأ مكاتبته، ألا ترى أنه لا يقدر أن يبيعَها‏.‏ وبهذا قال أبو حنيفة، ومالكٌ، والشافعى‏.‏ والنبىُّ صلى الله عليه وسلم أقرَّ عائشة رضى الله عنها على شرائها، وأهلَها على بيعها، ولم يسأل‏:‏ أعجزت أم لا، ومجيئُها تستعينُ في كتابتها لا يستلزِمُ عجزَها، وليس في بيع المكاتب محذور، فإن بيعه لا يُبطل كِتابته، فإنه يبقى عند المشترى كما كان عند البائع، إن أدى إليه، عَتَقَ، وإن عجز عن الأداء، فله أن يُعِيدَه إلى الرِّق كما كان عند بائعه، فلو لم تأت السنةُ بجواز بيعه، لكان القياسُ يقتضيه‏.‏

وقد ادعى غيرُ واحد الإجماعَ القديمَ على جواز بيعِ المكاتَب‏.‏ قالوا‏:‏ لأن قصة بريرة وردت بنقل الكافَّة، ولم يبق بالمدينة منْ لم يَعْرِفْ ذلك، لأنها صفقةٌ جرت بين أْمِّ المؤمنين، وبينَ بعضِ الصحابة رضي الله عنهم، وهم موالى بريرة، ثم خطبَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم الناسَ في أمر بيعها خُطبةُ في غير وقت الخطبة، ولا يكون شىء أشهر مِن هذا، ثم كان مِن مشى زوجِها خلفَها باكياً في أزِقَّة المدينةِ ما زاد الأمرَ شهرةً عند النساء والصبيان، قالوا‏:‏ فظهر يقيناً أنه إجماعٌ من الصحابة، إذ لا يُظن بصاحبٍ أنه يُخالف مِن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم مثلَ هذا الأمر الظاهر المستفيضِ قالوا‏:‏ ولا يُمكن أن تُوجِدُونا عن أحدٍ من الصحابة رضى الله عنهم المنعَ من بيع المكاتب إلا روايةً شاذة عن ابن عباس لا يُعرف لها إسناد‏.‏

واعتذر مَنْ منع بيعَه بعُذرين‏.‏ أحدهما‏:‏ أن بريرَةَ كانت قد عجزَت، وهذا عذرُ أصحاب الشافعى، والثانى‏:‏ أن البيعَ ورد على مال الكِتابة لا علي رقبتها، وهذا عذرُ أصحابِ مالك‏.‏

وهذان العُذران أحوجُ إلى أن يُعتذر عنهما مِن الحديث، ولا يَصِحُّ واحد منهما، أما الأول‏:‏ فلا ريبَ أن هذه القصة كانت بالمدينة، وقد شهدها العباسُ وابنُه عبد الله، وكانت الكِتابة تسع سنين في كل سنة أوقية، ولم تكن بعدُ أدَّت شيئاً، ولا خلاف أن العباس وابنَه إنما سكنا المدينة بعد فتح مكة، ولم يعشِ النبىُّ صلى الله عليه وسلم بعد ذلك إلا عامينِ، وبعضَ الثالث، فأين العجزُ وحلولُ النجوم‏؟‏،

وأيضاً، فإن بريرة لم تَقُلْ‏:‏ عجزتُ، ولا قالت لها عائشةُ‏:‏ أعجزتِ‏؟‏ ولا اعترف أهلُها بعجزها، ولا حكم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بعجزها، ولا وَصَفَها به، ولا أخْبَرَ عنها البتة، فمن أين لكم هذا العجزُ الذي تعجِزُونَ عن إثباته‏؟‏‏.‏

وأيضاً، فإنها إنما قالت لعائشة‏:‏ كاتبت أهلى على تسع أواق في كل سنة أوقية، وإنى أُحِبُّ أن تُعينينى، ولم تقل‏:‏ لم أؤدِّ لهم شيئاً، ولا مضت علىَّ نجوم عِدَّةٌ عجزت عن الأداء فيها، ولا قالت‏:‏ عجَّزنى أهلى‏.‏

وأيضاً فإنهم لو عجَّزوها، لعادت في الرّق، ولم تكن حينئذ لِتسعى في كتابتها، وتستعِينَ بعائشة على أمر قد بَطَلَ‏.‏

فإن قيل‏:‏ الذي يدل على عَجْزِهَا قولُ عائشة‏:‏ إن أحب أهلك أن اشتريَك وأعِتقَك، ويكون ولأؤكِ لى فعلتُ‏.‏ وقول النبى صلى الله عليه وسلم لعائشة رضى الله عنها‏:‏ ‏(‏اشْتَرِيهَا فَأَعْتِقيها‏)‏، وهذا يدلُّ على إنشاء عتق من عائشة رضى الله عنها، وعتقُ المكاتب بالأداء لا بإنشاء مِن السيد‏.‏ قيل‏:‏ هذا هو الذي أوجبَ لهم القولَ ببطلانِ الكِتابة‏.‏ قالوا‏:‏ ومِنَ المعلوم أنها لا تبطلُ إلا بعجز المكاتب أو تعجِيزِه نفسه، وحينئذ فيعود في الرِّق، فإنما ورد البيعُ على رقيق، لا على مكاتَب‏.‏

وجوابُ هذا‏:‏ أن ترتيب العِتق على الشراء لا يدُلُّ على إنشائه، فإنه ترتيبٌ للمسبب على سببه، ولا سيما فإن عائشة لما أرادت أن تُعجِّل كتابتها جملة واحدة كان هذا سبباً في إعتاقها، وقد قلُتم أنتم‏:‏ إن قولَ النبى صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لاَ يَجْزى وَلَدٌ وَالِدَهُ إلاَّ يَجِدَهُ مَمْلُوكاً فَيَشْتَرِيَهُ فَيُعْتِقَهُ‏)‏‏.‏

إن هذا من ترتيب المسبب على سببه، وأنه بنفس الشراء يُعتق عليه لا يحتاج إلى إنشاء عتق‏.‏

وأما العذرُ الثانى‏:‏ فأمرُه أظهرُ، وسياقُ القصة يُبطِلُه، فإن أمَّ المؤمنين اشترتْها، فأعتقتها، وكان ولاؤُها لها، وهذا مما لا ريبَ فيه، ولم تشترِ المالَ، والمال كان تسعَ أوراق منجَّمة، فعدَّتها لهم جملةً واحدة، ولم تتعرَّض للمال الذي في ذمتها، ولا كان غرضها بوجهِ ما، ولا كان لعائشة غرض في شراء الدراهم المؤجَّلة بعددها حالَّة‏.‏

وفى القصة جوازُ المعاملة بالنقود عدداً إذا لم يختلِفْ مقدارها، وفيها أنه لا يجوزُ لأحدٍ من المتعاقدَين أن يشترِطَ على الآخر شرطاً يُخالف حكم الله ورسوله، وهذا معنى قوله‏:‏ ‏(‏ليس في كتاب الله‏)‏، أى‏:‏ ليس في حكم الله جوازُه، وليس المرادُ أنه ليس في القرآن ذِكرُه وإباحته، ويدل عليه قولُه‏:‏ ‏(‏كتابُ الله أحق وشرطُ الله أوثق‏)‏‏.‏

وقد استدل به من صحيح العقد الذي شرط فيه شرط فاسد، ولم يبطل العقدُ به وهذا فيه نزاع وتفصيلٌ يظهر الصواب منه في تبيين معنى الحديث، فإنه قد أشكل على الناس قوله‏:‏ ‏(‏اشترطى لهم الولاء، فإن الولاء لمن أعتق‏)‏، فأذن لها في هذا الاشتراط، وأخبر لا يفيد‏.‏ والشافعى طعن في هذه اللفظة وقال‏:‏ إن هشام ابن عروة انفردَ بها، وخالفه غيرُه، فردها الشافعى، ولم يثبتْها، ولكن أصحاب ‏(‏الصحيحين‏)‏ وغيرَهم أخرجوها، ولم يطعنوا فيها، ولم يُعللها أحد سوى الشافعى فيما نعلم‏.‏

ثم اختلفوا في معناها، فقالت طائفة‏:‏ اللام ليست على بابها، بل هي بمعنى ‏(‏على‏)‏، كقوله‏:‏ ‏{‏إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ وإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 7‏]‏ أى‏:‏ فعليها، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ ومَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 46‏]‏‏.‏

ورَدَّتْ طائفة هذا الاعتذار بخلافه لسياق القصة، ولموضوع الحرف، وليس نظير الآية، فإنها قد فرَّقت بين ما للنفس وبين ما عليها، بخلاف قوله‏:‏ ‏(‏اشترطى لهم‏)‏‏.‏

وقالت طائفة‏:‏ بل اللام على بابها، ولكن في الكلام محذوف تقديره‏:‏ اشترطى لهم، أو لا تشترطى، فإن الاشتراط لا يُفيد شيئاً لمخالفته لكتاب الله‏.‏

وردَّ غيرُهم هذا الاعتذارَ لاستلزامه إضمارَ ما لا دليل عليه، والعلمُ به مِن نوع علم الغيب‏.‏

وقالت طائفة أخرى‏:‏ بل هذا أمرُ تهديد لا إباحة، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏اعْمَلُوا مَا شِئْتُم‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 40‏]‏ وهذا في البطلان من جنس ما قبله وأظهرُ فساداً، فما لعائشة، وما للتهديد هنا‏؟‏، وأين في السياق ما ينقضى التهديد لها‏؟‏ نعم هُمْ أحقُّ بالتهديد، لا أمُّ المؤمنين‏.‏

وقالت طائفة‏:‏ بل هو أمر إباحة وإذن، وأنه يجوزُ اشتراط مثلِ هذا، ويكونُ ولاءُ المكاتب للبائع، قاله بعضُ الشافعية، وهذا أفسدُ مِن جميع ما تقدم، وصريحُ الحديث يقتضى بطلانَه وردَّه‏.‏

وقالت طائفة‏:‏ إنما أذِنَ لها في الاشتراط، ليكون وسيلة إلى ظهور بطلانِ هذا الشرط، وعلم الخاص والعام به، وتقررَّ حكمه صلى الله عليه وسلم، وكان القومُ قد علِمُوا حكمه صلى الله عليه وسلم في ذلك، فلم يقنعوا دون أن يكون الولاءُ لهم، فعاقبهم بأن أذِنَ لعائشة في الاشتراط، ثم خطبَ الناس فأذَّن فيهم ببطلان هذا الشرط، وتضمَّن حكماً من أحكام الشريعة، وهو أن الشرطَ الباطل إذا شُرِطَ في العقد، لم يجز الوفاء به، ولولا الإذن في الاشتراط لما عُلِمَ ذلك، فإن الحديثَ تضمَّن فسادَ هذا الحكم، وهو كَونُ الولاءِ لغير المعتقِ‏.‏

وأما بطلانُه إذا شرط، فإنما استُفِيدَ مِن تصريح النبىِّ صلى الله عليه وسلم ببطلانه بعد اشتراطه ولعلَّ القومَ اعتقدوا أن اشتراطه يُفيد الوفاءَ به، وإن كان خلافَ مقتضى العقد المطلق، فأبطله النبىُّ صلى الله عليه وسلم، وإن شرط كما أبطله بدون الشرط‏.‏

فإن قيل‏:‏ فإذا فات مقصودُ المشترط ببطلان الشرط، فإنه إما أن يُسلَّط على الفسخ، أو يُعطى من الأرش بقدر ما فات من غرضه، والنبىُّ صلى الله عليه وسلم لم يَقْضِ بواحدٍ من الأمرين‏.‏

قيل‏:‏ هذا إنما يثبت إذا كان المشترط جاهلاً بفساد الشرط‏.‏ فأما إذا علم بطلانَه ومخالفتَه لحكم الله، كان عاصياً آثماً بإقدامه على اشتراطه، فلا فسخ له ولا أرش، وهذا أظهرُ الأمرين في موالى بريرة، والله أعلم‏.‏

فصل

وفى قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إنما الولاء لمن أعتق‏)‏ مِن العموم ما يقتضى ثبوتَه لمن أعتق سائبةً، أو في زكاة، أو كفارة، أو عتقٍ واجب، وهذا قولُ الشافعى وأبى حنيفة، وأحمد في إحدى الروايات، وقال في الرواية الأخرى‏:‏ لا ولاء عليه، وقال في الثالثة‏:‏ يُرد ولاؤه في عتق مثله، ويحتجُّ بعمومه أحمد ومن وافقه في أن المسلم إذا أعتق عبداً ذميِّاً، ثم مات العتيق، ورثه بالولاء، وهذا العمومُ أخصُّ من قوله‏:‏ ‏(‏لا يَرِثُ المُسْلِمُ الكَافِرَ‏)‏ فيخصصه أو يقيده، وقال الشافعى ومالك وأبو حنيفة‏:‏ لا يَرِثُه بالولاء إلا أن يموتَ العبدُ مسلماً، ولهم أن يقولوا‏:‏ إن عموم قوله‏:‏ ‏(‏الولاء لمن أعتق‏)‏، مخصوص بقوله‏:‏ ‏(‏لا يَرِثُ المُسْلِمُ الكَافِرَ‏)‏‏.‏

فصل‏:‏ في فقه قصة بريرة

وفى القصة مِن الفقه تخييرُ الأمة المزوَّجة إذا أُعتقت وزوجُها عبدٌ، وقد اختلفت الروايةُ في زوج بَريرة، هل كان عبداً أو حراً‏؟‏ فقال القاسم، عن عائشة رضى الله عنها‏:‏ كان عبداً ولو كان حراً لم يُخيَّرها‏.‏ وقال عروة عنها‏:‏ كان حراً‏.‏ وقال ابنُ عباس‏:‏ كان عبداً أسودَ يقال له‏:‏ مغيث، عبداً لبنى فلان، كأنى أنظر إليه يطوف وراءها في سكك المدينة، وكل هذا في الصحيح‏.‏ وفى سنن أبى داود عن عروة عن عائشة‏:‏ كان عبداً لآل أبى أحمد، فخيَّرها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وقال لها‏:‏ ‏(‏إنْ قَرُبَكِ، فَلاَ خيارَ لَكِ‏)‏‏.‏

وفى مسند أحمد، عن عائشة رضى الله عنها، أن بَريرة كانت تحتَ عبد، فلما أعتقها، قال لها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏اخْتارِى فَإنْ شِئْتِ أَنْ تَمْكُثِى تَحْتَ هذا العَبْدِ، وإن شِئْتِ أنْ تُفَارِقِيهِ‏)‏‏.‏

وقد روى في ‏(‏الصحيح‏)‏‏:‏ أنه كان حراً‏.‏

وأصحُّ الروايات، وأكثرُها‏:‏ أنه كانَ عبداً، وهذا الخبرُ رواه عن عائشة رضى الله عنها ثلاثة‏:‏ الأسود، وعروةُ، والقاسمُ، أما الأسود، فلم يختلفْ عنه عن عائشة أنه كان حراً، وأما عروة، فعنه روايتان صحيحتان متعارضتان، إحداها‏:‏ أنه كان حراً ؛ والثانية‏:‏ أنه كان عبداً، وأما عبد الرحمن بن القاسم، فعنه روايتان صحيحتان، إحداها‏:‏ أنه كان حراً، والثانية‏:‏ الشك‏.‏ قال داود بن مقاتل‏:‏ ولم تختلِفِ الروايةُ عن ابن عباس أنه كان عبداً‏.‏

واتفق الفقهاءُ على تخيير الأمةِ إذا أُعتِقَت وزوجُها عبد، واختلفوا إذا كان حراً ؛ فقال الشافعىُّ ومالك وأحمد في إحدى الروايتين عنه‏:‏ لا يخيرَ، وقال أبو حنيفة وأحمد في الرواية الثانية‏:‏ تُخيَّر‏.‏

وليست الروايتان مبنيتين على كون زوجها عبداً أو حراً، بل على تحقيق المناط في إثبات الخيار لها، وفيه ثلاثةُ مآخذ للفقهاء ؛ أحدها‏:‏ زوالُ الكفاءة، وهو المعبَّرُ عنه بقولهم‏:‏ كملت تحتَ ناقص، الثانى‏:‏ أن عتقها أوجبَ للزوج ملكَ طلقة ثالثة عليها لم تكن مملوكة له بالعقد، وهذا مأخذُ أصحابِ أبى حنيفة، وبنوا على أصلهم أن الطلاقَ معتبرٌ بالنساء لا بالرجال، الثالث‏:‏ ملكُها نفسها، ونحن نبين ما في هذه‏.‏

المأخذ الأول‏:‏ وهو كمالُها تحت ناقص، فهذا يرجع إلى أن الكفاءَة معتبرةٌ في الدوام، كما هي معتبرة في الابتداء، فإذا زالت، خُيِّرتِ المرأةُ، كما تخيَّر إذا بان الزوجُ غيرَ كفءٍ لها، وهذا ضعيف من وجهين‏.‏

أحدهما‏:‏ أن شروطَ النكاح لا يُعتبر دوامُها واستمرارها، وكذلك توابعه المقارِنَةُ لعقدة لا يُشترط أن تكون توابعَ في الدوام، فإن رضى الزوجة غير المجبَرة شرط في الابتداء دونَ الدوامِ، وكذلك الولىُّ والشاهدانِ، وكذلك مانعُ الإحرام والعدة والزنى عند من يمنع نكاحَ الزانية، إنما يمنع ابتداء العقد دون استدامته، فلا يلزم مِن اشتراط الكفاءة ابتداءُ اشتراط استمرارها ودوامها‏.‏‏.‏

الثانى‏:‏ أنه لو زالت الكفاءة في أثناء النكاح بفسقِ الزوج، أو حدوثِ عيب موجبٍ للفسخ، لم يَثْبُت الخيارُ على ظاهر المذهب، وهو اختيارُ قدماء الأصحاب، ومذهب مالك‏.‏ وأثبت القاضى الخيارَ بالعيب الحادِثَ، ويلزم إثباتُه بحدوث فسق الزوج، وقال الشافعى‏:‏ إن حدث بالزوج، ثبت الخيار، وإن حدث بالزوجة، فعلى قولين‏.‏

وأما المأخذُ الثانى وهو أن عتقها أوجب للزوج عليها مِلكَ طلقة ثالثة، فمأخذٌ ضعيف جداً، فأىُّ مناسبة بين ثبوت طلقة ثالثة، وبينَ ثبوت الخيارِ لها‏؟‏ وهل نصبَ الشارعُ مِلك الطلقة الثالثة سبباً لملك الفسخ، وما يُتوهم من أنها كانت تَبينُ منه باثنتين فصارت لا تَبينُ إلا بثلاث، وهو زيادةُ إمساك وحبس لم يقتضِهِ العقدُ فَاسِدٌ، فإنه يَمْلِكُ ألاَّ يُفارِقَها ألبتة، ويُمسكها حتى يُفرِّق الموتُ بينهما، والنكاحُ عقد على مدة العمر، فهو يَمْلِكُ استدامة إمساكِها، وعتقها لا يسلُبُه هذا الملك، فكيف يسلبه إياه ملكه عليها طلقةً ثالثة، وهذا لو كان الطلاق معتبراً بالنساء، فكيف والصحيحُ أنه معتبر بمن هو بيده وإليه، ومشروع في جانبه‏.‏

وأما المأخذُ الثالث‏:‏ وهو ملكُها نفسهَا، فهو أرجح المآخذِ وأقربُها إلى أصول الشرع، وأبعدُها من التناقض، وسر هذا المأخذ أن السيد عقدَ عليها بحكم الملك حيث كان مالكاً لرقبتها ومنافعها، والعتق يقتضى تمليكَ الرقبة والمنافع للمعتق، وهذا مقصوده وحكمته، فإذا ملكت رقبتها، ملكت بُضعها ومنافعها، ومن جملتها منافِع البُضع، فلا يملك عليها إلا باختيارها، فخيَّرها الشارعُ بين أن تُقيم مع زوجها، وبين أن تفسخَ نكاحه، إذ قد ملكت منافع بُضعها، وقد جاء في بعض طرق حديث بريرة، أنه صلى الله عليه وسلم قال لها‏:‏ ‏(‏مَلَكْتِ نَفْسَكِ فَاخْتَارى‏)‏‏.‏

فإن قيل‏:‏ هذا ينتقِضُ بما لو زوّجها ثم باعها، فإن المشترى قد ملك رقبتها وبُضعها ومنافِعَه، ولا تسلِّطُونه على فسخ النكاح‏.‏ قلنا لا يَرِدُ هذا نقضاً، فإن البائع نقل إلى المشترى ما كان مملوكاً له، فصار المشترى خليفته، هو لما زوَّجها، أخرج منفعة البُضع عن ملكه إلى الزوج، ثم نقلها إلى المشترى مسلوبةً منفعة البُضع، فصار كما لو آجر عبده مدة، ثم باعه‏.‏ فإن قيل‏:‏ فهب أن هذا يستقيم لكم فيما إذا باعها، فهلا قلتم ذلك إذا أعتقها، وأنها ملكت نفسَها مسلوبة البُضع، كما لو آجرها، ثم أعتقها، ولهذا ينتقِضُ عليكم هذا المأخذ‏؟‏

قيل‏:‏ الفرقُ بينهما‏:‏ أن العتق في تمليك العتيق رقبتَه ومنافعه أقوى من البيع، ولهذا ينفذ فيما لم يعتقه ويسرى في حصة الشريك، بخلاف البيع، فالعتق إسقاطُ ما كان السيد يملِكهُ من عتيقه، وجعله له محرراً، وذلك يقتضى إسقاط مُلكِ نفسه ومنافِعها كُلِّها‏.‏ وإذا كان العتق يسرى في ملك الغير المحض الذي لا حق له فيه البتة، فكيف لا يسري إلى مُلكه الذي تعلَّق به حقُّ الزوج، فإذا سرى إلى نصيب الشريكِ الذي لا حقَّ للمعتق فيه، فسريانُه إلى مُلك الذي يتعلق به حقُّ الزوج أولى وأحرى، فهذا محضُ العدل والقياس الصحيح‏.‏

فإن قيل‏:‏ فهذا فيه إبطال حقِّ الزوج من هذه المنفعة بخلاف الشريك، فإنه يرجِعُ إلى القيمة‏.‏

قيل‏:‏ الزوج قد استوفى المنفعة بالوطء، فطريانُ ما يُزيل دوامَها لا يُسقط له حقاً، كما لو طرأ ما يُفسِدُ أو يفسخُه برضاع أو حدوث عيب، أو زوالِ كفاءة عند من يفسخُ به‏.‏

فإن قيل‏:‏ فما تقولون فيما رواه النسائى، من حديث ابن مَوْهَب، عن القاسم بن محمد، قال‏:‏ كان لعائشة رضى الله عنها غلام وجارية، قالت‏:‏ فأردت أن أعتِقَهما، فذكرتُ ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال ‏(‏ابدَئى بالغُلاَم قَبْلَ الجَارِيَةَ‏)‏‏.‏ ولولا أن التخيير يمنع إذا كان الزوج حراً لم يكن للبداءة بعتق الغلام فائدة، فإذا بدات به، عتقت تحت حر، فلا يكون لها اختيار‏.‏

وفى سنن النسائى أيضاً‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏أيُّمَا أَمَةٍ كَانَتْ تَحْتَ عَبْدٍ فَعُتِقَتْ، فَهِىَ بِالخِيَارِ مَا لَمْ يَطَأْهَا زَوْجُها‏)‏‏.‏

قيل‏:‏ أما الحديث الأول‏:‏ فقال أبو جعفر العقيلى وقد رواه‏:‏ هذا خبرٌ لا يعرف إلا بعبيد الله بن عبد الرحمن بن مَوْهَب وهوضعيف‏.‏ وقال ابن حزم‏:‏ هو خبر لا يصح‏.‏ ثم لو صحَّ لم يكن فيه حجة، لأنه ليس فيه أنهما كانا زوجين، بل قال‏:‏ كان لها عبدٌ وجارية‏.‏ ثم لو كانا زوجين لم يكن في أمره لها بعتق العبد أولاً ما يُسقط خيارَ المعتقة تحتَ الحر، وليس في الخبر أنه أمرها بالابتداء بالزوج لهذا المعنى، بل الظاهر أنه أمرها بأن تبتدىء بالذَّكَرِ لفضل عتقه على الأنثى، وأن عتق أنثيين يقومُ مقامَ عتق ذَكَرٍ، كما في الحديث الصحيح مبيناً‏.‏

وأما الحديث الثانى‏:‏ فضُعِّف، لأنه من رواية الفضل بن حسن بن عمرو بن أمية الضمرى وهو مجهول‏.‏ فإذا تقرر هذا، وظهر حكمُ الشرع في إثبات الخيار لها، فقد روى الإمام أحمد بإسناده، عن النبى صلى الله عليه وسلم ‏(‏إِذَا أُعْتِقَتِ الأَمَةُ فهى بِالخِيارِ مَا لَمْ يَطَأْهَا، إن شَاءتْ فَارَقَتْهُ، وإِنْ وَطِئَها فَلاَ خَيارَ لَها وَلاَ تَسْتَطِيعُ فِرَاقَهُ‏)‏‏.‏ويُستفاد من هذا قضيتان‏:‏

إحداهما‏:‏ أن خيارَها على التراخى ما لم تُمَكِّنْهُ مِن وَطئها، وهذا مذهب مالك وأبى حنيفة‏.‏ وللشافعى ثلاثةُ أقوال‏.‏ هذا أحدُها‏.‏ والثانى‏:‏ أنه على الفور ؛ والثالث‏:‏ أنه إلى ثلاثة أيام‏.‏

الثانية‏:‏ أنها إذا مكَّنته من نفسها، فوطئها، سقط خيارُها، وهذا إذا علمت بالعتق وثبوتِ الخيار به، فلو جهلتهما، لم يسقط خيارُها بالتمكين من الوطء‏.‏ وعن أحمد رواية ثانية‏:‏ أنها لا تُعذر بجهلها بملك الفسخ، بل إذا علمت بالعتق، ومكَّنته مِن وطئها، سقط خيارها ولو لم تعلم أن لها الفسخ، والرواية الأولى أصح فإن عتق الزوج قبل أن تختار وقلنا‏:‏ إنه لا خيار للمعتقة تحت حر بطلَ خيارُها لمساواة الزوج لها، وحصول الكفاءة قبل الفسخ‏.‏ قال الشافعى في أحد قوليه وليس هو المنصور عند أصحابه‏:‏ لها الفسخ لتقدُّم ملك الخيار على العتق فلا يبطله، والأوّل أقيسُ لزوال سبب الفسخ بالعتق، وكما لو زال العيبُ في البيع والنكاح قبل الفسخ به، وكما لو زال الإعسار في زمن ملك الزوجة الفسخَ به‏.‏ وإذا قلنا‏:‏ العلة ملكها نفسها، فلا أثر لذلك، فإن طلقها طلاقاً رجعياً، فعتقت في عدتها، فاختارت الفسخَ، بطلت الرجعةُ، وإن اختارت المقام معه، صح، وسقط اختيارُها للفسخ، لأن الرجعية كالزوجة‏.‏

وقال الشافعى وبعضُ أصحاب أحمد‏:‏ لا يسقُط خيارُها إذا رضيت بالمقام دون الرجعة، ولها أن تختار نفسها بعد الارتجاع، ولا يَصِحُّ اختيارُها في زمن الطلاق فإن الاختيارَ في زمن هي فيه صائرة إلى بينوتة، ممتنع فإذا راجعها، صحَّ حينئذ أن تختارَه وتُقيم معه، لأنها صارت زوجة، وعمل الاختيار عمله، وترتَّبَ أثرُه عليه‏.‏ ونظيرُ هذا إذا ارتدَّ زوجُ الأمة بعد الدخول، ثم عتقت في زمن الرِّدَّة، فعلى القول الأول لها الخيار قبل إسلامه، فإن اختارته، ثم أسلم، سقط ملكُها للفسخ، وعلى قول الشافعى‏:‏ لا يَصِحُّ لها خيار قبل إسلامه، لأن العقد صائر إلى البطلان فإذا أسلم، صحَّ خِيارُها‏.‏

فإن قيل‏:‏ فما تقولون إذا طلقها قبل أن تفسخ، هل يقع الطلاق أم لا‏؟‏

قيل‏:‏ نعم يقع، لأنها زوجة ؛ وقال بعضُ أصحاب أحمد وغيرهم‏:‏ يُوقف الطلاق، فإن فسخت، تبينّا أنه لم يقع، وإن اختارت زوجها تبينّا وقوعه‏.‏ فإن قيل‏:‏ فما حكم المهر إذا اختارت الفسخ‏؟‏

قيل‏:‏ إما أن تفسخ قبل الدخول أو بعده‏.‏ فإن فسخت بعدَه، لم يسقط المهر، وهو لِسيدها سواء فسخت أو أقامت، وإن فسخت قبله ففيه قولان، هما روايتان عن أحمد إحداهما‏:‏ لا مهر، لأن الفرقة من جهتها، والثانية، يجب نصفُه، ويكون لسيدها لا لها‏.‏

فإن قيل‏:‏ فما تقولون في المعتَق نِصفُها، هل لها خيار‏؟‏ قيل‏:‏ فيه قولان، وهما روايتان عن أحمد، فإن قلنا‏:‏ لا خيارَ لها كزوج مدبَّرة له لا يمِلك غيرها وقيمُتها مائة، فعقد على مائتين مهراً، ثم مات، عتقت، وَلم تمِلك الفسخَ قبل الدخول، لأنها لو ملكت، سقطَ المهرُ، أو انتصف، فلم تخرُجْ مِن الثلث، فيرق بعضُها، فيمتنِعُ الفسخُ قبل الدخول، بخلاف ما إذا لم تملكه، فإنها تخرُج من الثلث، فيعتق جميعُها‏.‏

فصل

في قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لو راجَعْتِهِ‏)‏ فقالت‏:‏ أتأمُرنى‏؟‏ فقال‏:‏ ‏(‏لا، إنَّما أَنَا شافع‏)‏، فقالت‏:‏ لا حاجة لى فيه، فيه ثلاث قضايا‏.‏

إحداها‏:‏ أن أمره على الوجوب، لهذا فرَّق بين أمره وشفاعته، ولا ريبَ أن امتثال شفاعته من أعظم المستحبات‏.‏

الثانية‏:‏ أنه صلى الله عليه وسلم لم يَغْضَبْ على بريرة، ولم يُنكر عليها إذ لم تقبل شفاعته، لأن الشفاعة في إسقاط المشفوع عنده حقه، وذلك إليه، إن شاء أسقطه، وإن أبقاه فلذلك لا يحرُم عصيانُ شفاعته صلى الله عليه وسلم، ويحرم عصيانُ أمره‏.‏

الثالثة‏:‏ أن اسم المراجعة في لسان الشارع قد يكونُ مع زوال عقد النكاح بالكلية، فيكون ابتداءَ عقد، وقد يكون مع تشعثه، فيكون إمساكاً، وقد سمَّى سبحانه ابتداء النكاح للمطلق ثلاثاً بعد الزوج الثانى مُراجعتةً، فقال‏:‏ ‏{‏فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 230‏]‏ أى‏:‏ إن طلقها الثانى، فلا جناح عليها، وعلى الأول أن يتراجعا نكاحاً مستأنفاً‏.‏

فصل

وفى أكله صلى الله عليه وسلم مِن اللحم الذي تُصدِّقَ به على برَيرة، وقال‏:‏ ‏(‏هُوَ عَلَيْهَا صَدَقَةٌ ولَنا هَدِيَّةٌ‏)‏، دليلٌ على جواز أكل الغنى، وبنى هاشم، وكل من تحرم عليه الصدقة مما يُهديه إليه الفقير من الصدقة لاختلاف جهة المأكول، ولأنه قد بلغ محلَّه وكذلك يجوزُ له أن يشتريَه منه بماله‏.‏ هذا إذا لم تكن صدقَة نفسه، فإن كانت صدقَته، لم يجز له أن يشتريَهَا، ولا يَهبَها، ولا يقبلها هديةً‏.‏ كما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر رضى الله عنه عن شِراء صدقته وقال‏:‏ ‏(‏لا تَشْتَرِه وإنْ أَعْطَاكَهُ بِدِرْهَم‏)‏‏.‏

فصل‏:‏ في قضائه صلى الله عليه وسلم في الصداق بما قلَّ وكَثُرَ وقضائه بصحة النكاح على ما مع الزوج مِن القُرآن

ثبت في ‏(‏صحيح مسلم‏)‏‏:‏ عن عائشة رضى الله عنها‏:‏ كانَ صَدَاقُ النبىِّ صلى الله عليه وسلم لأَزواجه ثنتى عشرة أوقية ونشَّاً، فذلك خمسمائة‏.‏

وقال عُمَرُ رضى الله عنه‏:‏ ما عَلِمْتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم نَكَحَ شيئاً مِن نسائه، ولا أَنْكَحَ شيئاً مِن بناتِه على أكثرَ مِن ثِنتى عشرةَ أُوقية‏.‏ قال الترمذى‏:‏ حديث حسن صحيح‏.‏ انتهى‏.‏

وفى ‏(‏صحيح البخارى‏)‏‏:‏ من حديث سهل بن سعد، أن النبىَّ صلى الله عليه وسلم قال لرجل‏:‏ ‏(‏تَزَوَّجْ وَلَوْ بِخَاتَمٍ مِنْ حَدِيدٍ‏)‏‏.‏

وفى سنن أبى داود‏:‏ مِن حديث جابر، أن النبىَّ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏مَنْ أعْطى في صَداقٍ مِلءَ كفيه سَويقاً أوْ تَمراً، فَقَدِ اسْتَحَلَّ‏)‏‏.‏

وفى الترمذى‏:‏ أن امرأةً مِن بنى فَزارة تزوَّجت على نعلينِ، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏رَضِيتِ مِنْ نَفْسِكِ ومَالِكِ بنعلين‏)‏‏؟‏ قالت‏:‏ نعم، فأجازه‏.‏ قال الترمذى‏:‏ حديث حسن صحيح‏.‏

وفى مسند الإمام أحمد‏:‏ من حديث عائشة رضىَ الله عنها، عن النبىِّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إنَّ أَعْظَمَ النِّكَاحِ بَرَكَةً أَيْسَرُهُ مَؤُونَة‏)‏‏.‏

وفى ‏(‏الصحيحين‏)‏‏:‏ أن امرأةً جاءت إلى النبىِّ صلى الله عليه وسلم، فقالت‏:‏ يا رسولَ الله، إنى قد وهبتُ نفسى لكَ، فقامَت طويلاً، فقال رجل‏:‏ يا رسول الله، زَوِّجْنِيهَا إن لم يَكُن لَكَ بِهَا حَاجَةٌ، فقالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏فَهَلْ عِنْدَكَ مِنْ شَىءٍ تُصْدِقُها إيَّاهُ‏)‏‏؟‏ قال‏:‏ ما عندى إلا إزارى هذا، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إنَّكَ إنْ أَعْطَيْتَها إزَارَكَ جَلَسْتَ وَلاَ إزَارَ لَكَ، فَالْتَمِسْ شَيْئاً‏)‏، قال‏:‏ لا أجد شيئاً، قال‏:‏ ‏(‏فَالْتَمِسْ وَلَوْ خَاتَماً مِنْ حَدِيدٍ‏)‏، فالتمس فلم يَجِدْ شيئاً، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏هَلْ مَعَكَ شىء مِنَ القُرْآنِ‏)‏‏؟‏ قال‏:‏ نعم سورةُ كذا وسورةُ كذا لِسور سماها، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏قَدْ زَوَّجْتُكَها بِمَا مَعَكَ مِنَ القُرْآن‏)‏‏.‏

وفى النسائى‏:‏ أن أبا طلحة خطب أُمَّ سُلَيْمٍ، فقالت‏:‏ واللَّهِ يا أَبَا طلحة، ما مِثْلُكَ يُرَدُّ ولكنَّك رجلٌ كافِر، وأنا امرأةٌ مسلمة، ولا يَحِلُّ لى أن أتزوَّجَك، فإن تُسْلِم، فَذاك مَهْرِى، وما أسألك غيرَه، فأسلَمَ فكان ذَلكَ مَهْرَهَا‏.‏ قال ثابت‏:‏ فما سمعنا بامرأةٍ قَطُّ كانت أكرمَ مهراً من أمِّ سُليم، فدخل بها، فولدت له‏.‏

فتضمن هذا الحديثُ أن الصداق لا يتقدَّر أقلُّه، وأن قبضةَ السويق وخاتمَ الحديد والنعلينِ يَصِحُّ تسميتُها مهراً، وتَحِلُّ بها الزوجة‏.‏

وتضمَّن أن المُغالاة في المهر مكروهة في النكاح، وأنها مِن قلة بركته وعُسره‏.‏

وتضمَّن أن المرأةً إذا رَضِيت بعلم الزوج، وحِفظه للقرآن أو بعضه مِن مهرها، جاز ذلك، وكان ما يحصُل لها من انتفاعها بالقرآن والعلم هو صَداقها، كما إذا جَعَل السيدُ عِتْقَها صداقَها وكان انتفاعُها بحريَّتها ومُلكها لرقبتها هو صداقَها، وهذا هو الذي اختَارته أمُّ سليم من انتفاعها بإسلام أبى طلحة، وبذلِها نفسها له إن أسلم، وهذا أحبُّ إليها من المال الذي يبذُلُه الزوجُ، فإن الصداقَ شُرِعَ في الأصل حقاً للمرأة تنتفع به، فإذا رضيت بالعلم والدِّين، وإسلام الزوج، وقراءته للقرآن، كان هذا من أفضل المهور وأنفعها وأجلِّها، فما خلا العقد عن مهر، وأين الحكم بتقدير المهر بثلاثة دراهم، أو عشرة من النص‏؟‏ والقياس إلى الحكم بصحة كون المهر ما ذكرنا نصاً وقياساً، وليس هذا مستوياً بين هذه المرأة وبين الموهبة التي وهبت نفسها للنبى صلى الله عليه وسلم وهى خالصة له من دون المؤمنين، فإن تلك وهبت نفسها هبةً مجردة عن ولى وصداق، بخلاف ما نحن فيه، فإنه نكاح بولى وصداق، وإن كان غير مالى، فإن المرأة جعلته عوضاً عن المال لما يرجع إليها من نفعه، ولم تهب نفسها للزوج هِبةً مجرَّدَةً كهبة شىء من مالها بخلاف الموهوبة التي خصَّ الله بها رسوله صلى الله عليه وسلم، هذا مقتضى هذه الأحاديث‏.‏

وقد خالف في بعضه من قال‏:‏ لا يكون الصداقُ إلا مالاً، ولا تكون منافع أخرى، ولا علمه، ولا تعليمه صداقاً، كقول أبى حنيفة وأحمد في رواية عنه‏.‏ ومن قال‏:‏ لا يكون أقلَّ مِن ثلاثة دراهم كمالك، وعشرة دراهم كأبى حنيفة، وفيه أقوال أخر شاذة لا دليل عليها من كتاب، ولا سنة، ولا إجماع، ولا قياس، ولا قولِ صاحب‏.‏

ومن ادعى في هذه الأحاديث التي ذكرناها اختصاصَها بالنبى صلى الله عليه وسلم، أو أنها منسوخة، أو أن عملَ أهل المدينة على خلافها، فدعوى لا يقومُ عليها دليلٌ‏.‏ والأصل يردُّها، وقد زوَّج سيدُ أهل المدينة من التابعين سعيدُ بن المسيب ابنتَه على درهمين، ولم يُنكر عليه أحد، بل عُدَّ ذلك في مناقبه وفضائله، وقد تزوَّج عبد الرحمن بن عوف على صداق خمسة دراهم، وأقرَّه النبى صلى الله عليه وسلم، ولا سبيل إلى إثبات المقادير إلا من جهة صاحب الشرع‏.‏

فصل‏:‏ في حكمه صلى الله عليه وسلم، وخلفائه في أحد الزوجين يجد بصاحبه برصاً أو جنوناً أو جذاماً، أو يكون الزوج عِنِّيناً

في ‏(‏مسند أحمد‏)‏‏:‏ من حديث يزيد بن كعب بن عُجرة رضى الله عنه، أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم تزوَّجَ امرأةً من بنى غِفَار، فلما دَخَلَ عَلَيْهَا، وَوَضَعَ ثوبَه، وقَعَدَ على الفِراش، أبصَرَ بِكَشْحِهَا بياضاً ؛ فامّازَ عَنِ الفِرَاشِ، ثم قال‏:‏ ‏(‏خُذِى عَلَيكِ ثِيَابَكِ،‏)‏ ولم يأخذ مما آتاها شيئاً‏.‏

وفى ‏(‏الموطأ‏)‏‏:‏ عن عمر أنه قال‏:‏ أَيُّما امْرَاَةٍ غرَّ بها رجُلٌ، بِها جُنُونُ أَوْ جُذامٌ أوْ بَرَصُ، فَلَهَا المَهْرُ بما أصَابَ مِنْهَا، وصَدَاقُ الرَّجُلِ عَلى مَنْ غَرَّهُ‏)‏‏.‏

وفى لفظ آخر‏:‏ ‏(‏قضَى عمر في البَرْصاء، والجذماء، والمجنونة، إذا دخَل بها فَرَّقَ بينَهما، والصَّداقُ لها بمَسِيسِه إياها، وهو له على وَلِيِّها‏)‏

وفى سنن أبى داود‏:‏ مِن حديث عِكرمة، عن ابن عباس رضى الله عنهما‏:‏ طلَّق عبدُ يزيد أبو رُكانة زوجتَه أمَّ رُكانة، ونَكَحَ امرأةً مِنْ مُزِيْنَةَ، فجاءت إلى النبىِّ صلى الله عليه وسلم فقالت‏:‏ ما يُغْنِى عَنِّى إلاَّ كَما تُغْنِى هذِهِ الشَّعْرَةُ لِشَعْرَةٍ أَخَذَتْها مِنْ رَأْسِها، فَفَرِّق بينى وبينَه، فأخذت النبىَّ صلى الله عليه وسلم حَمِيَّةُ، فذكر الحديثَ‏.‏ وفيه‏:‏ أنه صلى الله عليه وسلم قال له ‏(‏طَلِّقْها‏)‏، ففعل، ثم قال‏:‏ ‏(‏رَاجِع امْرَأَتُكَ أُمَّ رُكَانَةَ‏)‏، فقال‏:‏ إنى طلقتُها ثلاثاً يا رَسُولَ اللَّهِ، قال‏:‏ ‏(‏قَدْ عَلِمْتُ، ارْجِعْهَا‏)‏، وتلا‏:‏ ‏{‏يَأَيُّهَا النَّبِىُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ‏}‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 1‏]‏‏.‏

ولا عِلَّة لهذا الحديث إلا روايةُ ابن جُريج له عن بعض بنى أبى رافع، وهو مجهول، ولكن هو تابعى، وابنُ جريج من الأئمة الثقات العدولِ، وروايةُ العدل عن غيره تعديلٌ له ما لم يُعلم فيه جرحٌ، ولم يكن الكذبُ ظاهراً في التابعين، ولا سيما التابعين مِن أهل المدينة، ولا سيما موالى رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، ولا سيما مثل هذه السنة التي تشتد حاجةُ النَّاس إليها لا يُظن بابن جريج أنه حملها عن كذَّاب، ولا عن غيرِ ثقة عنده، ولم يُبيِّنْ حاله‏.‏

وجاء التفريقُ بالعُنَّةِ عن عمر، وعثمانَ، وعبدِ الله بن مسعود، وسمرةَ بنِ جندب، ومعاويةَ بن أبى سفيان، والحارث بن عبد الله بن أبى ربيعة، والمغيرة بن شعبة، لكن عمر، وابن مسعود، والمغيرة، أجَّلُوه سنة، وعثمان ومعاوية وسمرة لم يؤجِّلوه، والحارث بن عبد الله أجَّلَه عشرة أشهر‏.‏

وذكر سعيدُ بن منصور‏:‏ حدثنا هُشيم، أنبأنا عبدُ الله بن عوف، عن ابن سيرين أن عمرَ بنَ الخطاب رضى الله عنه بعثَ رجلاً على بعضِ السِّعَاية، فتزوَّج امرأةً وكان عقيماً، فقال له عمرُ‏:‏ أعْلَمْتَها أنَّكَ عَقِيمُ‏؟‏ قال‏:‏ لا، قال‏:‏ فانطلق فأعْلِمْها، ثم خيِّرها‏.‏

وأجَّلَ مجنوناً سنة، فإن أفاق وإلا فرَّق بينه وبين امرأته‏.‏

فاختلف الفقهاءُ في ذلك، فقال داود، وابنُ حزم، ومَنْ وافقهما‏:‏ لا يُفْسَخْ النكاحُ بعيب ألبتة، وقال أبو حنيفة‏:‏ لا يفسخ إلا بالجَبِّ والعُنَّةِ خاصة‏.‏ وقال الشافعى ومالك‏:‏ يُفْسَخُ بالجنونِ والبَرَصِ، والجُذامِ والقَرَن، والجَبِّ والعُنَّةِ خاصة، وزاد الإمام أحمد عليهما‏:‏ أن تكونَ المرأة فتقاءَ منخرِقة ما بينَ السبيلين، ولأصحابه في نَتَنِ الفرج والفم، وانخراقِ مخرجى البول والمنى في الفرج، والقروح السيالة فيه، والبواسير، والنَّاصور، والاستحاضة، واستطلاقِ البول، والنجو، والخصى وهو قطعُ البيضتينِ، والسَّل وَهو سَلُّ البيضتين، والوجء وهو رضُّهما، وكونُ أحدهما خُنثى مشكلاً، والعيبِ الذي بصاحبه مثلُه مِن العيوب السبعة، والعيبِ الحادث بعد العقد، وجهان‏.‏

وذهب بعضُ أصحابِ الشافعى إلى ردِّ المرأة بكُلِّ عيبٍ تُردُّ به الجاريةُ في البيع وأكثرُهم لا يَعْرِفُ هذا الوجهَ ولا مظِنَّتَه، ولا مَنْ قاله‏.‏ وممن حكاه‏:‏ أبو عاصم العبادانى في كتاب طبقات أصحاب الشافعى، وهذا القولُ هو القياس، أو قولُ ابن حزم ومن وافقه‏.‏

وأما الاقتصارُ على عيبين أو ستة أو سبعة أو ثمانية دون ما هو أولى منها أو مساو لها، فلا وجه له، فالعمى والخرس والطرش، وكونُها مقطوعة اليدين أو الرجلين، أو إحداهُما، أو كونُ الرجل كذلك من أعظم المنفِّرات، والسكوت عنه من أقبح التدليس والغش، وهو مُنافٍ للدين، والإطلاق إنما ينصرف إلى السلامة، فهو كالمشروط عرفاً، وقد قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضى الله عنه لمن تزوج امرأة وهُو لا يولد له‏:‏ أَخْبِرْهَا أنَّكَ عَقِيمٌ وخيِّرْهَا‏.‏ فماذا يقول رضى الله عنه في العيوب التي هذا عندها كمالٌ لا نقص‏؟‏

والقياس‏:‏ أن كُلَّ عيب ينفِرُ الزوجُ الآخر منه، ولا يحصُل به مقصودُ النكاح مِن الرحمة والمودَّة يُوجبُ الخيارَ، وهو أولى مِن البيع، كما أن الشروطَ المشترطة في النكاح أولى بالوفاءِ مِن شروط البيع، وما ألزم اللَّهُ ورسولُه مغروراً قطُّ، ولا مغبوباً بما غُرَّ به وغُبِنَ به، ومن تدبَّر مقاصد الشرع في مصادره وموارِده وعدله وحِكمته، وما اشتمل عليه مِن المصالح لم يخفَ عليه رجحانُ هذا القول، وقربُه من قواعد الشريعة‏.‏

وقد روى يحيى بن سعيد الأنصارى، عن ابن المسيب قال‏:‏ قال عمر‏:‏ أيُّما امرأةٍ زُوِّجَتْ وبها جنونٌ أو جُذام أو بَرَصٌ فدخل بها ثم اطَّلع على ذلك، فلها مهرها بمسيسه إياها، وعلى الولى الصَّداقُ بما دلس كما غرَّه‏.‏

ورَدُّ هذا بأن ابن المسيِّب لم يسمع من عمر من باب الهذيان البارد المخالف لإجماع أهل الحديث قاطبة، قال الإمام أحمد‏:‏ إذا لم يُقبل سعيد بن المسيب عن عمر، فمن يقبل، وأئمة الإسلام وجمهورهُم يحتجون بقول سعيد بن المسيب‏:‏ قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ فكيف بروايته عن عُمَرَ رضى الله عنه، وكان عبد الله بن عمر يرسل إلى سعيد يسأله عن قضايا عمر، فيُفتى بها، ولم يطعن أحدٌ قطُّ من أهل عصره، ولا مَنْ بعدهم ممن له في الإسلام قولٌ معتبر في رواية سعيد بن المسيب عن عمر، ولا عبرة بغيرهم‏.‏

وروى الشعبى عن على‏:‏ أيُّما امرأةٍ نكحت وبها بَرَصٌ أو جُنون أو جُذام أو قَرَنٌ فزوجُها بالخيار ما لم يمسها، إن شاء أمسك، وإن شاء طلق، وإن مسَّها فلها المهرُ بما استحل من فرجها‏.‏

وقال وكيع‏:‏ عن سفيان الثورى، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسِّيب، عن عُمَرَ، قال‏:‏ إذا تزوَّجها برصاء، أو عميَاء، فدخل بها، فلها الصداقُ، ويرجعُ به على مَنْ غرَّه‏.‏ وهذا يدل على أن عمر لم يذكر تلك العيوب المتقدِّمة على وجه الاختصاص والحصر دونَ ما عداها، وكذلك حكم قاضى الإسلام حقاً الذي يُضرب المثلُ بعلمِه ودِينه وحُكمه‏:‏ شريحٍ قال عبد الرزاق‏:‏ عن معمر، عن أيوب، عن ابن سيرين، خاصم رجلٌ إلى شُرَيْح، فقال‏:‏ إن هؤلاء قالوا لى‏:‏ إنا نُزوِّجُك بأحْسَنِ الناسِ، فجاؤونى بامرأة عمشاءَ، فقال شُريح‏:‏ إن كان دلِّس لك بعيب لم يَجُز، فتأمل هذا القضاء، وقوله‏:‏ إن كان دلِّس لك بعيب، كيف يقتضى أن كل عيب دلست به المرأةُ، فللزوج الردُّ به‏؟‏ وقال الزهرىُّ يُردُّ النكاح مِن كل داءٍ عُضالٍ‏.‏

ومن تأمل فتاوى الصحابة والسلف، علم أنهم لم يخصُّوا الردَّ بعيب دون عيب إلا رواية رُويت عن عمر رضى الله عنه‏:‏ لا تُردُّ النساء إلا من العُيوب الأربعة‏:‏ الجنون، والجذام، والبرص، والداء في الفرج‏.‏ وهذه الرواية لا نعلم لها إسناداً أكثر من أصبغ عن ابن وهب، عن عُمَرَ وعَلى‏.‏ رُوى عن ابن عباسِ ذلك بإسناد متصل، ذكره سفيان، عن عمرو بن دينار عنه‏.‏ هذا كُلُّه إذا أطلقَ الزوجُ، وأما إذا اشترط السلامةَ، أو شرطَ الجمَال، فبانت شوهاء، أو شرطَها شابةً حديثةَ السن، فبانت عجوزاً شمطاء، أو شرطها بيضاءَ، فبانت سوداء، أو بِكراً فبانت ثيباً، فله الفسخُ في ذلك كُلِّه‏.‏

فإن كان قبلَ الدخول، فلا مهرَ لها، وإن كان بعدَه، فلها المهرُ، وهو غُرْمٌ على وليها إن كان غرَّه، وإن كانت هي الغارَّة، سقط مهرُها أو رَجَعَ عليها به إن كانت قبضته، ونص على هذا أحمد في إحدى الروايتين عنه، وهو أقيسُهما وأولاهما بأصوله فيما إذا كان الزوج هو المشترط‏.‏

وقال أصحابُه‏:‏ إذا شرطت فيه صفةً، فبان بخلافها، فلا خيار لَها إلا في شرط الحفرية إذا بان عبداً، فلها الخيارُ، وفى شرط النسب إذا بان بخلافه وجهان، والذي يقتضيه مذهبُه وقواعده، أنه لا فرق بين اشتراطه واشتراطها، بل إثباتُ الخيار لها إذا فات ما اشترطته أولى، لأنها لا تتمكَّنُ من المفارقة بالطلاق، فإذا جاز له الفسخُ مع تمكنهِ من الفراق بغيره، فلأن يجوزَ لها الفسخُ مع عدم تمكُّنها أولى، وإذا جاز لها الفسخ إذا ظهر الزوجُ ذا صناعة دنيئة لا تشينُه في دِينه ولا في عرضه، وإنما تمنع كمال لذتها واستمتاعها به، فإذا شرطته شاباً جميلاً صحيحاً فبان شيخاً مشوهاً أعمى أطرش أخرس أسود، فكيف تلزم به، وتمنع من الفسخ‏؟‏ هذا في غاية الامتناع والتناقض، والبعدِ عن القياس، وقواعد الشرع، وباللَّه التوفيق‏.‏

وكيف يمكَّن أحدُ الزوجين من الفسخ بقدر العدسَةِ من البَرَصِ، ولا يُمكَّن منه بالجرب المستحكم المتمكِّن وهو أشدُّ إعداءَ من ذلك البرص اليسير وكذلك غيرُه مِن أنواع الداء العُضال‏؟‏

وإذا كان النبىُّ صلى الله عليه وسلم حرَّم على البائع كِتمانَ عيب سلعته، وحرَّم على مَنْ علمه أن يكتُمَه مِن المشترى، فكيف بالعيوب في النكاح، وقد قال النبىُّ صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنتِ قيس حين استشارته في نكاح معاوية، أو أبى الجهم‏:‏ ‏(‏أمَّا مُعَاوِيَةُ، فَصُعْلُوكٌ لا مَالَ لَهُ، وأمَّا أبُو جَهْمِ، فَلا يَضَعُ عَصَاهُ عَنْ عَاتِقِه‏)‏، فعُلِمَ أن بيانَ العيب في النكاح أولى وأوجب، فكيف يكون كتمانُه وتدليسُه والغِشُّ الحرَامُ به سبباً للزومه، وجعل ذا العيب غُلاً لازماً في عُنق صاحبه مع شِدة نُفرته عنه، ولا سيما مع شرط السلامة منه، وشرطِ خلافه، وهذا مما يُعلم يقيناً أن تصرفات الشريعة وقواعدَها وأحكامَها تأباه واللَّه أعلم‏.‏

وقد ذهب أبو محمد ابن حزم إلى أن الزوجَ إذا شرط السلامةَ مِن العيوب، فوجِدَ أىّ عيبٍ كان، فالنكاح باطل من أصله غير منعقد، ولا خيار له فيه، ولا إجازة ولا نفقة، ولا ميراث‏.‏ قال‏:‏ لأَن التي أدخلت عليه غير التي تزوج، إذ السالمةُ غيرُ المعيبة بلا شك، فإذا لم يتزوجها، فلا زوجيةَ بينهما‏.‏

فصل‏:‏ في حُكم النبىِّ صَلَّى الله عليه وسلم في خِدْمَةِ المرأةِ لزوجها

قال ابنُ حبيب في ‏(‏الواضحة‏)‏‏:‏ حكم النبىُّ صلى الله عليه وسلم بين على بن أبى طالب رضى الله عنه، وبين زوجته فاطمة رضى الله عنها حين اشتكيا إليه الخِدمة، فحكم على فاطمة بالخدمة الباطنة خدمة البيت، وحكم على عليٍّ بالخدمة الظاهرة، ثم قال ابنُ حبيب‏:‏ والخدمة الباطنة‏:‏ العجينُ، والطبخُ، والفرشُ، وكنسُ البيت، واستقاءُ الماء، وعمل البيت كلِّه‏.‏

في ‏(‏الصحيحين‏)‏‏:‏ أن فاطمة رضى الله عنها أتتِ النبىَّ صلى الله عليه وسلم تشكُو إليه ما تَلْقى في يَدَيْهَا مِن الرَّحى، وتسألُه خادماً فلم تَجِدْه، فذكرت ذلك لِعائشة رضى الله عنها، فلما جاء رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أخبرتْه‏.‏ قال على‏:‏ فجاءنا وقد أخذنا مَضَاجِعَنَا، فذهبنا نقومُ، فقال‏:‏ ‏(‏مَكَانكُمَا‏)‏، فجاء فقعَدَ بينَنَا حتى وجدت بَرْدَ قَدَمَيْهِ على بطْنى، فقال‏:‏ ‏(‏أَلاَ أدُلُّكُمَا عَلى مَا هُوَ خَيْرٌ لَكُمَا مِمَّا سَأَلْتُمَا، إذا أَخَذْتُما مَضَاجِعَكُما فَسَبِّحا الله ثَلاثَاً وثَلاثِينَ، واحْمَدا ثلاثاً وثلاثينَ، وكَبِّرا أربعاً وثلاثين، فهو خير لكما من خادِم‏.‏ قال عَلُّى‏:‏ فما تركتُها بَعْدُ، قِيلَ‏:‏ ولا ليلةَ صفين‏؟‏ قال‏:‏ ولا ليلة صِفِّين‏)‏‏.‏

وصحَّ عن أسماء أنها قالت‏:‏ كنت أخدِمُ الزُّبَيْرَ خِدْمَةَ البَيْتِ كُلِّه، وكان لَه فَرَسٌ وكُنْتُ أَسُوسُه، وكُنْتُ أَحْتشُّ لَهُ، وأَقُومُ عَلَيْهِ‏.‏

وصحَّ عنها أنها كانت تَعْلِفُ فرسَه، وتَسْقِى الماءَ، وتَخْرِزُ الدَّلْوَ وتَعْجِنُ، وتَنْقُلُ النَّوى عَلَى رَأْسِهَا مِنْ أَرضٍ لَهُ عَلَى ثُلُثَى فَرْسَخ‏.‏

فاختلف الفقهاءُ في ذلك، فأوجب طائفةٌ مِن السَّلفِ والخَلَفِ خِدمَتها له في مصالح البيت، وقال أبو ثور‏:‏ عليها أن تَخْدِمَ زوجها في كل شىء، ومنعت طائفةً وجوبَ خدمته عليها في شىء، وممن ذهب إلى ذلك مالك، والشافعى، وأبو حنيفة، وأهلُ الظاهر، قالوا‏:‏ لأن عقدَ النكاح إنما اقتضى الاستمتاع، لا الاستخدام وبذل المنافع، قالوا‏:‏ والأحاديث المذكورة إنما تدلُّ على التطوُّع ومكارِمِ الأخلاق، فأين الوجوبُ منها‏؟‏

واحتج من أوجب الخدمة، بأن هذا هو المعروف عند من خاطبهم الله سبحانه بكلامه، وأما ترفيهُ المرأةِ، وخدمةُ الزوج، وكنسُه، وطحنُه، وعجنُه، وغسيلُه، وفرشُه، وقيامُه بخدمة البيت، فَمِنَ المنكر، واللَّه تعالى يقول‏:‏‏{‏ولَهُنَّ مِثْلُ الذي عَليْهنَّ بِالمَعْرُوفِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 228‏]‏ وقال‏:‏‏{‏الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلى النِّسَاءِ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 34‏]‏ وإذا لم تخدِمْه المرأةُ، بل يكون هو الخادِمَ لها، فهى القَوَّامَةُ عليه‏.‏

وأيضاً‏:‏ فإن المهر في مقابلة البُضع، وكُلٌّ مِن الزوجين يقضى وطرَه مِن صاحبه فإنما أوجبَ الله سبحانه نفقتَها وكُسوتها ومسكنَها في مقابلة استمتاعه بها وخدمتها، وما جرت به عادةُ الأزواج‏.‏

وأيضاً فإن العقود المطلقة إنما تُنَزَّلُ على العرف، والعُرفُ خدمةُ المرأة، وقيامُها بمصالح البيت الداخلة، وقولُهم‏:‏ إن خدمة فاطمة وأسماء كانت تبرعاً وإحساناً يردُّه أن فاطمة كانت تشتكى ما تلقى مِن الخِدمة، فلم يَقُلْ لعلتى‏:‏ لا خِدمة عليها، وإنما هي عليك، وهو صلى الله عليه وسلم لا يُحابى في الحكم أحداً، ولما رأى أسماء والعلفُ على رأسها، والزبيرُ معه، يقل له‏:‏ لا خِدمةَ عليها، وأن هذا ظلمٌ لها، بل أقرَّه على استخدامها، وأقرَّ سائِرَ أصحابه على استخدام أزواجهم مع علمه بأن منهن الكارِهَة والراضية، هذا أمر لا ريب فيه‏.‏

ولا يَصِحُّ التفريقُ بين شريفة ودنيئة، وفقيرةٍ وغنية، فهذه أشرفُ نساء العالمين كانت تَخْدِمُ زوجها، وجاءته صلى الله عليه وسلم تشكُو إليه الخدمة، فلم يُشْكِهَا، وقد سمَّى النبىُّ صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح المرأة عانيَةُ، فقال‏:‏ ‏(‏اتَّقُوا اللَّهَ في النّساءِ، فإِنَّهُنَّ عَوانٍ عِنْدَكُم‏)‏‏.‏ والعانى‏:‏ الأسير، ومرتبة الأسير خدمةُ من هو تحت يده، ولا ريبَ أن النكاح نوعٌ من الرِّق، كما قال بعضُ السلف‏:‏ النكاح رِق، فلينظر أحدُكم عند من يُرِقُّ كريمته، ولا يخفى على المنصف الراجحُ من المذهبين، والأقوى من الدليلين‏.‏

حُكْمُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم بَيْنَ الزوجين يَقَعُ الشِّقَاقُ بينهما

روى أبو داود في ‏(‏سننه‏)‏‏:‏ من حديث عائشة رضى الله عنها، أن حبيبةَ بنتَ سهل كانت عند ثابت بنِ قيس بن شمَّاس، فضربها، فكَسَرَ بعضَها، فأَتَتِ النبىَّ صلى الله عليه وسلم بعدَ الصُّبْحِ، فدعا النبىُّ صلى الله عليه وسلم ثابتاً، فقال‏:‏ ‏(‏خُذْ بَعْضَ مَالِها وفَارِقْها‏)‏، فقال‏:‏ ويصلُح ذلك يا رسولَ الله‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏نعم‏)‏، قال‏:‏ فإنى أَصدقتُها حَديقتَينِ، وهُما بيدها، فقال النبىُّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏خُذْهُما وفَارِقْها‏)‏، فَفَعَل‏.‏

وقد حكم الله تعالى بين الزوجين يقعُ الشِّقاقُ بينهما بقوله تعالى‏:‏‏{‏وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهمَا فَابْعَثْوا حَكَماً مِنْ أهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاَحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً خَبيراً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 35‏]‏‏.‏

وقد اختلف السلفُ والخَلَفُ في الحَكَمين‏:‏ هل هُما حاكمان، أو وكيلان‏؟‏ على قولين‏.‏

أحدهما‏:‏ أنهما وكيلان، وهو قولُ أبى حنيفة، والشافعى في قول، وأحمد في رواية‏.‏

والثانى‏:‏ أنهما حاكمان، وهذا قولُ أهلِ المدينة، ومالك، وأحمد في الرواية الأخرى، والشافعى في القول الآخر، وهذا هو الصحيح‏.‏

والعجبُ كُلُّ العجب ممن يقول‏:‏ هما وكيلان لا حاكمان، واللَّه تعالى قد نصبهما حَكَمين، وجعل نصَبهما إلى غير الزوجين، ولو كانا وكيلين، لقال‏:‏ فليبعث وكيلاً مِن أهله، ولتبعث وكيلاً من أهلها‏.‏

وأيضاً فلو كانا وكيلين، لم يختصا بأن يكونا مِن الأهل‏.‏

وأيضاً فإنه جعل الحُكْمَ إليهما فقال‏:‏ ‏{‏إن يُريدَا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ الله بَيْنَهُمَا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 35‏]‏ والوكيلان لا إرادة لهما، إنما يتصرَّفان بإرادة موَكِّليهما‏.‏

وأيضاً فإن الوكيل لا يُسمى حَكماً في لغة القرآن، ولا في لسان الشارع، ولا في العُرف العام ولا الخاص‏.‏

وأيضاً فالحَكَمُ مَنْ له ولاية الحُكْمِ والإلزام، وليس للوكيل شىء من ذلك‏.‏

وأيضاً فإن الحَكَم أبلغُ مِن حاكم، لأنه صفة مشبهة باسم الفاعل دالة على الثبوت، ولا خلاف بين أهل العربية في ذلك، فإذا كان اسمُ الحاكم لا يصدُق على الوكيل المحض، فكيف بما هو أبلغُ منه‏.‏

وأيضاً فإنه سبحانه خاطب بذلك غيرَ الزوجين، وكيف يَصِحُّ أن يُوكِّل عن الرجل والمرأة غيرَهما، وهذا يُحوِجُ إلى تقدير الآية هكذا‏:‏‏{‏وإنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 35‏]‏ فمروهما أن يُوكِّلا وكيلين‏:‏ وكيلاً من أهله ووكيلاً من أهلها، ومعلومٌ بُعْدُ لفظِ الآية ومعناها عن هذا التقدير، وأنها لا تدلُّ عليه بوجه، بل هي دالة على خلافه، وهذا بحمد الله واضح‏.‏

وبعث عثمانُ بنُ عفان عبد الله بنَ عباس ومعاويةَ حَكَمَيْنِ بين عقيل بن أبى طالب وامرأته فاطمةَ بنت عُتبة بن ربيعة، فقيل لهما‏:‏ إن رأيتُما أن تُفَرِّقا فرقتما‏.‏

وصحَّ عن على بن أبى طالب أنه قال لِلحكَمَيْنِ بين الزوجين‏:‏ عَلَيْكُمَا إن رأيتُما أن تفرِّقا، فرَّقتما، وإن رأيتُمَا أن تَجْمَعَا، جمعتُما‏.‏

فهذا عثمانُ، وعلىُّ، وابنُ عباس، ومعاوية، جعلوا الحكم إلى الحكمين، ولا يُعرف لهم من الصحابة مخالف، وإنما يُعرف الخلاف بين التابعين فمن بعدهم‏.‏ واللَّه أعلم‏.‏

وإذا قلنا‏:‏ إنهما وكيلان، فهل يُجبر الزوجانِ على توكيل الزوج في الفُرقة بعوضٍ وغيره، وتوكيلِ الزوجة في بذل العِوَضِ، أو لا يُجبران‏؟‏ على روايتين، فإن قلنا‏:‏ يجبران، فلم يوكلا، جعل الحاكمُ ذلك إلى الحكمين بغير رضى الزوجين وإن قلنا‏:‏ إنهما حكمان، لم يحتج إلى رضى الزوجين‏.‏

وعلى هذا النزاع ينبنى ما لو غاب الزوجان أو أحدُهما، فإن قيل‏:‏ إنهما وكيلان لم ينقطع نظرُ الحكمين، وإن قيل‏:‏ حكمان، انقطع نظرهُما لعدم الحكم على الغائب، وقيل‏:‏ يبقى نظرهما على القولين لأنهما يتطرفان لحظهما، فهما كالناظرين‏.‏ وإن جُنَّ الزوجانِ، انقطع نظرُ الحكمين، إن قيل‏:‏ إنهما وكيلان، لأنهما فرعُ الموكلين، ولم ينقطع إن قيل‏:‏ إنهما حكمان، لأن الحاكم يلى على المجنون، وقيل‏:‏ ينقطع أيضاً لأنهما منصوبان عنهما، فكأنهما وكيلانِ، ولا ريبَ أنهما حكمان فيهما شائبة الوكالة، ووكيلان منصوبان للحكم، فمِن العلماء من رجَّح جانب الحكم، ومنهم من رجح جانب الوكالة، ومنهم من اعتبر الأمرين‏.‏

حُكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخُلع

في صحيح البخارى‏:‏ عن ابن عباس رضى الله عنه، أن امرأة ثابت بن قيس بن شمَّاس، أَتَتِ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم فقالت‏:‏ يا رسولَ الله، ثابتُ بنُ قيس ما أَعِيبُ عليه في خُلُقٍ، ولا دِين، وَلكِنِّى أكُرهُ الكُفْرَ في الإِسْلامِ، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏تَرُدِّين عَلَيْهِ حَدِيقَتَه‏؟‏‏)‏ قالت‏:‏ نعم، قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏اقُبَل الحَديقَةَ وطَلِّقْهَا تَطْلِيقَةً‏)‏‏.‏

وفى سنن النسائى، عن الرُّبَيِّع بِنْتِ مُعَوِّذ، أن ثابتَ بن قيس بن شماس ضَرَبَ امرأته فَكَسَرَ يدها، وهى جميلة بنت عبد الله بن أبى، فأتى أخوها يشتكيه إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، فأرسل إليه، فقال‏:‏ ‏(‏خُذْ الذي لَهَا عَلَيْكَ وخَلِّ سَبِيلَها‏)‏، قال‏:‏ نعم، فأمرها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن تتربَّصَ حيضةً وَاحِدَةً وتلحق بأهلها‏.‏

وفى سنن أبى داود‏:‏ عن ابن عباس، أنَّ امرأة ثَابتِ بن قيسِ بن شمَّاس اختلعت من زوجها، فأمرها النبىُّ صلى الله عليه وسلم أن تعتدَّ حَيْضَة‏.‏

وفى سنن الدارقطنى في هذه القصة‏:‏ فقال النبىٌّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أَتَرُدِّين عَلَيْهِ حَدِيقَتَهُ التي أَعْطَاكِ‏)‏‏؟‏ قالت‏:‏ نَعَمْ وَزِيادَة، فقال النبىُّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أَمَّا الزِّيادَةُ، فَلا ولكِنْ حَدِيقَتَهُ‏)‏، قالت‏:‏ نعم، فأخذ مالَه، وخلَّى سبيلها، فلما بلغ ذلك ثابت بن قيس قال‏:‏ قد قبلتُ قضاءَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ قال الدارقطنى‏:‏ إسناده صحيح‏.‏

فتضمَّن هذا الحكم النبوى عدة أحكام‏.‏

أحدُها‏:‏ جوازُ الخُلْع كما دلَّ عليه القرآن، قال تعالى‏:‏‏{‏وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إلاَّ أَنْ يَخَافَا أَنْ لاَ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَنْ لاَ يُقِيمَا حُدُودَ الله فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بهِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 229‏]‏‏.‏

ومنع الخلعَ طائفةٌ شَاذَّة من الناس خالفتِ النصَّ والإجماعَ‏.‏

وفى الآية دليل على جوازه مطلقاً بإذن السلطان وغيره، ومنعه طائفة بدون إذنه، والأئمة الأربعة والجمهورُ على خلافه‏.‏

وفى الآية دليل على حصول البينونة به، لأنه سبحانه سمَّاه فدية، ولو كان رجعياً كما قاله بعضُ الناسِ لم يحصل للمرأة الافتداءُ من الزوج بما بذلته له، ودلَّ قولُه سبحانه‏:‏ ‏{‏فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِه‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 229‏]‏ على جوازِه بما قل وكثُر وأن له أن يأخُذَ منها أكثرَ مما أعطاها‏.‏

وقد ذكر عبد الرزاق، عن معمر، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، أن الرُّبَيِّعَ بنْتَ مُعَوِّذِ بنِ عفراء حدثته، أنها اختلعت مِن زوجها بِكُلِّ شىء تملكه، فخُوصِمَ في ذلك إلى عثمان بن عفان، فأجازه، وأمره أن يأخُذ عِقَاصَ رأسها فما دُونَه‏.‏

وذكر أيضاً عن ابن جريج، عن موسى بن عقبة، عن نافع، أن ابن عمر جاءته مولاة لامرأته اختلعت مِن كل شىء لها وكلِّ ثوب لها حتى نُقبتِها‏.‏

ورفعت إلى عمر بن الخطاب امرأة نشزت عَنْ زوجها، فقال‏:‏ اخلعها ولو مِن قُرطها، ذكره حماد بن سلمة، عن أيوب، عن كثير بن أبى كثير عنه‏.‏

وذكر عبد الرزاق، عن معمر، عن ليث، عن الحكم بن عُتيبة عن على بن أبى طالب رضى الله عنه‏:‏ لا يأخُذُ منها فوقَ ما أعطاها‏.‏

وقال طاووس‏:‏ لا يَحِلُّ أن يأخُذَ منها أكثَر مما أعطاها، وقال عطاء‏:‏ إن أخذ زيادةً على صداقها فالزيادةُ مردودة إليها‏.‏ وقال الزهرى‏:‏ لا يَحلُّ له أن يأخذ منها أكثرَ مما أعطاها‏.‏ وقال ميمون بن مهران‏:‏ إن أخذ منها أكثر مما أعطاها لم يُسَرِّحُ بإِحسان‏.‏ وقال الأوزاعي‏:‏ كانت القضاةُ لا تُجيز أن يأخُذ منها شيئاً إلا ما ساق إليها‏.‏

والذين جوَّزوه احتجوا بظاهر القرآن، وآثارِ الصحابة، والذين منعوه، احتجوا بحديث أبى الزبير، أن ثابت بن قيس بن شماس لما أراد خَلْعَ امرأته، قال النبىُّ صلى الله عليه وسلم‏:‏

‏(‏أَتَرُدِّينَ عَلَيْهِ حَدِيقَتَهُ‏)‏‏؟‏ قالت‏:‏ نعم وَزِيادة، فقال النبى صلى الله عليه وسلم‏:‏ أما الزيادة، فلا‏.‏ قال الدارقطنى‏:‏ سمعه أبو الزبير من غير واحد، وإسناده صحيح‏.‏

قالوا‏:‏ والآثار من الصحابة مختلِفَة، فمنهم من رُوِىَ عنه تحريمُ الزيادة، ومنهم من رُوِىَ عنه إباحتها، ومنهم مَنْ رُوِىَ عنه كراهتُها، كما روى وكيع عن أبى حنيفة، عن عمار بن عمران الهمدانى، عن أبيه، عن على رضى الله عنه، أنه كره أن يأخذ منها أكثر مما أعطاها، والإمامُ أحمد أخذ بهذا القولِ، ونصَّ على الكراهة، وأبو بكر من أصحابه حرَّم الزيادة، وقال‏:‏ ترد عليها‏.‏

وقد ذكر عبد الرزاق، عن ابن جريج، قال‏:‏ قال لى عطاء‏:‏ أتت امرأة رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فقالت‏:‏ يا رسولَ الله، إنى أُبْغِضُ زوجى وأُحِبُّ فراقه، قال‏:‏ ‏(‏فَتَرُدِّينَ عَلَيْهِ حَدِيقَتَهُ التي أَصْدَقَكِ‏)‏‏؟‏ قالت‏:‏ نعم وَزِيادة مِن مالى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أَمَّا الزِّيادَةُ منْ مَالِك فَلا ولكِنِ الحَدِيقَةُ‏)‏، قالت‏:‏ نعم، فقضى بذلك على الزوج وهذا وإن كان مرسلاً، فحديث أبى الزبير مُقَوِّله، وقد رواه جريج عنهما‏.‏

فصل

وفى تسميتة سبحانه الخلعَ فديةً، دليل على أن فيه معنى المعاوضةِ، ولهذا اعتُبر فيه رضى الزوجين، فإذا تَقَايَلا الخلعَ وردَّ عليها ما أخذ منها، وارتجعها في العِدة، فهل لهما ذلك‏؟‏ منعه الأئمة الأربعة وغيرهم وقالوا قد بانت منه بنفس الخلع، وذكر عبد الرازق، عن معمر، عن قتادة، عن سعيد بن المسيِّب أنه قال في المختلعة‏:‏ إن شاء أن يُراجِعَها، فليردَّ عليها ما أخذ منها في العدة، وليشهد على رجعتها‏.‏ قال معمر‏:‏ وكان الزهرى يقول مثل ذلك‏.‏ قال قتادة‏:‏ وكان الحسن يقول‏:‏ لا يُراجعها إلا بخطبة‏.‏

ولقولِ سعيد بن المسيب، والزهرى وجهٌ دقيق مِن الفقه، لطيفُ المأخذ، تتلقاه قواعِدُ الفقِه وأصوله بالقبول، ولا نكارة فيه، غير أن العملَ على خلافه، فإن المرأة ما دامت في العدة فهى في حبسه، ويلحقُها صريحُ طلاقه المنجز عند طائفة من العلماء، فإذا تقايلا عقد الخلع، وتراجعا إلى ما كان عليه بتراضيهما، لم تمنع قواعدُ الشرع ذلك، وهذا بخلاف ما بعدَ العِدة، فإنها قد صارت منه أجنبية محضة، فهو خاطبٌ من الخطاب، ويدل على هذا أن له يتزوجها في عدتها منه بخلاف غيره‏.‏

فصل

وفى أمره صلى الله عليه وسلم المختلعة أن تعتدَّ بحيضة واحدة، دليل على حُكمين أحدهما‏:‏ أنه لا يجبُ عليها ثلاثُ حيض، بل تكفيها حيضة واحدة، وهذا كما أنه صريحُ السنة، فهو مذهبُ أمير المؤمنين عثمان بن عفان، وعبد الله بن عمر بن الخطاب، والرُّبَيِّع بِنْت مُعَوِّذ، وعمها وهو مِن كبار الصحابة، لا يُعرف لهم مخالفٌ منهم، كما رواه الليث بن سعد، عن نافع مولى ابن عمر، أنه سمع الرُّبَيِّعَ بنتَ معوِّذِ بن عفراء وهى تُخبِرُ عبد الله بن عمر رضى الله عنه أنها اختلعت مِن زوجها على عهد عثمان بن عفان، فجاء عمُّها إلى عثمان ابن عفان، فقال له‏:‏ إن ابنة مُعَوِّذٍ اختلعت من زوجها اليوم، أفتنتقل‏؟‏ فقال عثمان‏:‏ لِتنتقِلْ ولا ميراثَ بينهما، ولا عِدة عليها إلا أنها لا تَنْكِحُ حتى تحيضَ حيضةُ خشيةَ أن يكون بها حبل‏.‏ فقال عبد الله بن عمر‏:‏ فعثمان خيرُنا وأعلمُنا ؛ وذهب إلى هذا المذهب إسحاق بن راهوية، والإمام أحمد في رواية عنه، اختارها، شيخُ الإسلام ابن تيمية‏.‏

قال من نصر هذا القول‏:‏ هو مقتضى قواعِدِ الشريعة، فإن العدة إنما جُعِلَتْ ثلاثَ حيضِ ليطولَ زمن الرجعة، فيتروَّى الزوج، ويتمكَّن من الرجعة في مدة العِدة فإذا لم تكن عليها رجعة، فالمقصودُ مجردُ براءة رَحِمِها من الحمل، وذلك يكفى فيه حيضة، كالاستبراء‏.‏ قالوا‏:‏ ولا ينتقضُ هذا علينا بالمطلقةِ ثلاثاً، فإن باب الطلاق جُعِلَ حكمُ العدة فيه واحداً بائنة ورجعية‏.‏

قالوا‏:‏ وهذا دليل على أن الخلع فسخ، وليس بطلاق، وهو مذهبُ ابن عباس، وعثمان، وابن عمر، والرُّبيع، وعمها، ولا يَصِحُّ عن صحابى أنه طلاق ألبتة، فروى الإمام أحمد، عن يحيى بن سعيد، عن سفيان، عن عمرو، عن طاووس، عن ابن عباس رضى الله عنهم أنه قال‏:‏ الخُلْعُ تفريقٌ، وليس بطلاق‏.‏

وذكر عبد الرزاق، عن سُفيان، عن عمرو، عن طاووس، أن إبراهيم بن سعد ابن أبى وقاص سأله عن رجل طلَّق امرأته تطليقتين، ثم اختلعت منه، أينكِحُها‏؟‏ قال ابنُ عباس‏:‏ نعم ذكر الله الطلاقَ في أوَّل الآية وآخِرها، والخلعَ بين ذلك‏.‏

فإن قيل‏:‏ كيف تقولون‏:‏ إنه لا مخالف لمن ذكرتُم مِن الصحابة، وقد روى حمادُ ابن سلمة، عن هشام بنِ عُروة، عن أبيه، عن جُمْهَانَ، أن أم بكرة الأسلمية كانت تحتَ عبد الله بن أُسيد واختلعت منه، فَندِما، فارتفعا إلى عُثمان بن عفان، فأجاز ذلك، وقال‏:‏ هي واحدة إلا أن تكونَ سمَّت شيئاً، فهو على ما سمَّت‏.‏

وذكر ابنُ أبى شيبة‏:‏ حدثنا على بن هاشم، عن ابن أبى ليلى، عن طلحة بن مصرِّف، عن إبراهيم النَّخعى، عن علقمة، عن ابن مسعود، قال‏:‏ لا تكون تطليقة بائنة إلا في فدية أو إيلاء‏.‏ وروُى عن على بن أبى طالب، فهؤلاء ثلاثةُ مِن أجلاء الصحابة رضى الله عنهم‏.‏

قيل‏:‏ لا يَصِحُّ هذا عن واحد منهم، أما أثر عثمان رضى الله عنه، فطعن فيه الإمام أحمد، والبيهقى، وغيرُهما، قال شيخنا‏:‏ وكيف يَصِحُّ عن عثمان، وهو لا يرى فيه عِدة، وإنما يرى الاستبراء فيه بحيضة‏؟‏ فلو كان عنده طلاَقاً، لأوجب فيه العدة، وجُمْهَانُ الراوى لهذه القصة عن عثمان لا نعرفه بأكثر من أنه مولى الأسلميين‏.‏

وأما أثر على بن أبى طالب، فقال أبو محمد ابن حزم‏:‏ رويناه من طريق لا يصح عن على رضى الله عنه‏.‏ وأمثلها‏:‏ أثر ابنِ مسعودَ على سوء حفظ ابن أبى ليلى، ثم غايتُه إن كان محفوظاً أن يدُلَّ على أن الطلقة في الخلع تقع بائنة لا أن الخلع يكون طلاقاً بائناً، وبين الأمرين فرق ظاهر‏.‏

والذي يَدُلُّ على أنه ليس بطلاق أن الله سبحانه وتعالى رتَّبَ على الطَّلاقِ بعد الدُّخولِ الذي لم يَستوفِ عدده ثلاثة أحكام، كلُّها منتفية عن الخلع‏.‏ أحدها‏:‏ أن الزوجَ أحقُّ بالرجعة فيه‏.‏ الثانى‏:‏ أنه محسوب مِن الثلاث، فلا تَحِلُّ بعد استيفاء العدد إلا بعد زوج وإصابة‏.‏ الثالث‏:‏ أن العدة فيه ثلاثةُ قروء، وقد ثبت بالنصِّ والإجماع أنه لا رجعة في الخُلع وثبت بالسنة وأقوالِ الصحابة أن العِدة فيه حيضةٌ واحدة، وثبت بالنص جوازه طلقتين، ووقوع ثالثة بعده، وهذا ظاهر جداً في كونه ليس بطلاق، فإنه سبحانه قال‏:‏‏{‏الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكُ بِمَعرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلاَ يَحِلُّ لَكُم أن تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إلاَّ أنْ يَخَافَا أنْ لاَ يُقِيمَا حُدُودَ الله فَإِنْ خِفْتُم أنْ لاَ يُقِيمَا حُدُودَ الله فلا جُناحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 229‏]‏ وهذا وإن لم يختص بالمطلقة تطليقتين، فإنه يتناولها وغيرَهما، ولا يجوزُ أن يعودَ الضميرُ إلى من لم يذكر، ويُخلى منه المذكور، بل إما أن يختصَّ بالسابق أو يتناوله وغيره، ثم قال‏:‏ ‏{‏فَإِنْ طَلَّقَها فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 230‏]‏ وهذا يتناولُ مَنْ طلقت بعد فديةٍ وطلقتين قطعاً لأنها هي المذكورة، فلا بُدَّ من دخولها تحت اللفظ، وهكذا فَهِمَ ترجُمانُ القرآن الذي دعا له رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن يُعلِّمَه اللَّهُ تأويلَ القُرآن، وهى دعوة مستجابة بلا شكٍّ‏.‏

وإذا كانت أحكامُ الفدية غيرَ أحكامِ الطَّلاقِ، دَلَّ على أنها من غيرِ جِنسه، فهذا مقتضى النصِّ، والقياسِ، وأقوالِ الصحابة، ثم من نظر إلى حقائقِ العقود ومقاصِدها دون ألفاظها يَعُدُّ الخلع فسخاً بأى لفظٍ كان حتى بلفظ الطَّلاقِ، وهذا أحدُ الوجهين لأصحاب أحمد، وهو اختيارُ شيخنا‏.‏ قال‏:‏ وهذا ظاهرُ كلامِ أحمد، وكلام ابن عباس وأصحابه‏.‏ قال ابنُ جريج‏:‏ أخبرنى عمروُ بنُ دينار، أنه سمع عكرمة مولى ابن عباس يقول‏:‏ ما أجازَه المالُ، فليسَ بطلاقٍ‏.‏ قال عبدُ الله بنُ أحمد‏:‏ رأيتُ أبى كان يذهبُ إلى قول ابن عباس‏.‏ وقال عمرو، عن طاووس عن ابن عباس‏:‏ الخلعُ تفريقٌ وليس بطلاق، وقال ابنُ جريج، عن ابن طاووس‏:‏ كان أبى لا يرى الفداء طلاقاً ويُخِّيرُه‏.‏

ومن اعتبر الألفاظ ووقفَ معها، واعتبرها في أحكام العُقودِ، جعله بلفظ الطلاق طلاقاً، وقوَاعِدُ الفقه وأصولُه تشهد أن الرْعِىَّ في العقود حقائقُها ومعانيها لا صورُها وألفاظُها، وباللَّه التوفيق‏.‏ ومما يَدُلُّ على هذا، أن النبىَّ صلى الله عليه وسلم أمر ثابتَ بنَ قيس أن يُطلِّق امرأتَه في الخُلعِ تطليقةً، ومع هذا أمرها أن تعتدَّ بحيضة، وهذا صريحُ في أنه فسخ، ولو وقع بلفظ الطلاق‏.‏

وأيضاً فإنه سبحانه علَّق عليه أحكامَ الفدية بكونه فدية، ومعلومُ أنَّ الفِدية لا تختص بلفظ، ولم يُعين الله سبحانه لها لفظاً معيَّناً، وطلاقُ الفداء طلاقُ مقيَّد، ولا يدخل تحت أحكام الطلاق المطلق، كما لا يدخلُ تحتها في ثبوت الرجعة والاعتداد بثلاثة قروء بالسنة الثابتة، وباللَّه التوفيق‏.‏

ذكرُ أحكام رسولِ الله صلى الله عليه وسلم في الطلاق

ذكر حكمه صلى الله عليه وسلم في طلاق الهازل، وزائل العقل، والمكرَه والتطليق في نفسه

في ‏(‏السنن‏)‏‏:‏ من حديث أبى هريرة رضى الله عنه، ‏(‏ثَلاَثُ جِدُّهُنَّ جِدُّ، وهَزْلُهُنَّ جِدٌّ‏:‏ النِّكَاحُ، والطَّلاَقُ، والرَّجْعَةُ‏)‏‏.‏

وفيها‏:‏ عنه من حديث ابن عباس‏:‏ ‏(‏إنَّ الله وَضَعَ عَنْ أُمَّتِى الخَطَأَ والنِّسْيَانَ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ‏)‏‏.‏

وفيها‏:‏ عنه صلى الله عليه وسلم، ‏(‏لا طَلاَقَ ولا عتاق في إِغْلاقٍ‏)‏‏.‏

وصح عنه أنه قال للمُقِرِّ بالزنى‏:‏ ‏(‏أبِكَ جُنُونُ‏)‏‏؟‏

وثبت عنه أنه أمرَ بِهِ أن يُستنكه‏.‏

وذكر البخارى في ‏(‏صحيحه‏)‏‏:‏ عن على، أنه قال لِعُمَر‏:‏ ألم تعلم أَنَّ القلم رُفِعَ عن ثلاث‏:‏ عن المجنونِ حتى يُفيقَ، وعن الصَّبِىِّ حتى يُدرِكَ، وعن النائم حتى يستيقظ‏.‏

وفى ‏(‏الصحيح‏)‏ عنه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إنَّ الله تَجَاوَزَ لأُمَّتِى عَمَّا حَدَّثت بِهِ أنفُسَها مَا لَمْ تكَلَّمْ، أَو تَعْملْ بِه‏)‏‏.‏

فتضمَّنت هذه السنن، أن ما لم يَنْطِقْ به اللسان مِن طلاق أو عِتاق، أو يمين، أو نذر ونحوِ ذلك، عفوٌ غيرُ لازم بالنية والقصد، وهذا قولُ الجمهور، وفى المسألة قولان آخرانِ‏.‏

أحدهما‏:‏ التوقف فيها، قال عبد الرزاق، عن معمر‏:‏ سئل ابنُ سيرين عمن طلَّق في نفسه، فقال‏:‏ أليس قد عَلِمَ الله ما في نفسك‏؟‏ قال‏:‏ بلى، قال‏:‏ فلا أقولُ فيها شيئاً‏.‏

والثانى‏:‏ وقوعُه إذا جزَم عليه، وهذا روايةُ أشهب عن مالك، ورُوى عن الزهرى وحجةُ هذا القول قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إنَّما الأعمالُ بالنِّيَّاتِ‏)‏، وأن من كفر في نفسه، فهو كفر، وقوله تعالى‏:‏‏{‏وإنْ تُبْدُوا مَا في أَنْفُسِكُم أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ الله‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 284‏]‏، وأن المصرَّ على المعصية فاسق مؤاخذ وإن لم يفعلها، وبأن أعمالَ القلوب في الثواب والعقاب كأعمالِ الجوارح، ولهذا يُثاب على الحبِّ والبُغض، والموالاة والمعاداة في الله، وعلى التوكُّل والرِّضى، والعزمِ على الطاعة ويُعاقَبُ على الكِبر والحَسَدِ، والعُجب والشكِّ، والرِّياءِ وظنِّ السوء بالأبرياء‏.‏

ولا حُجة في شىء من هذا على وقوعِ الطلاق والعتاق بمجرد النيةِ مِن غير تلفظ أما حديثُ ‏(‏الأعمال بالنيات‏)‏‏:‏ فهو حجةٌ عليهم، لأنه أخبر فيه أن العملَ مع النية هو المعتبرُ، لا النية وحدَها، وأما من اعتقد الكُفْرَ بقلبه أو شكَّ، فهو كافر لِزوال الإيمان الذي هو عقدُ القلب مع الإقرار، فإذا زالَ العقدُ الجازمُ، كان نفسُ زواله كفراً، فإن الإيمانَ أمر وجودى ثابتٌ قائم بالقلب، فما لم يَقُمْ بالقلب، حَصَلَ ضده وهو كفر، وهذا كالعلم والجهل إذا فقد العلم، حصل الجهل، وكذلك كلُّ نقيضين زال أحدُهما خلفه الآخر‏.‏

أما الآية فليس فيها أن المحاسبةَ بما يُخفيه العبدُ إلزامه بأحكامه بالشرع، وإنما فيها محاسبتُه بما يُبديه أو يُخفيه، ثم هو مغفور له أو معذَّب، فأين هذا من وقوع الطلاق بالنية‏.‏ وأما أن المصرَّ على المعصية فاسقٌ مؤاخذ، فهذا إنما هو فيمن عَمِلَ المعصية، ثم أصرَّ عليها، فهُنا عمل اتصل به العزمُ علي معاودته، فهذا هو المُصِرُّ، وأما مَنْ عزم على المعصية ولم يَعْمَلْها، فهو بين أمرينِ، إما أن لا تُكتب عليه، إما أن تُكتب له حسنة إذا تركها للَّه عز وجل‏.‏ وأما الثوابُ والعقابُ على أعمال القلوب فحقٌّ، والقرآنُ والسنة مملوآن به، ولكن وقوعُ الطلاق والعتاق بالنية من غير تلفُّظ أمر خارج عن الثواب والعقاب، ولا تلازم بين الأمرين، فإن ما يُعاقب عليه مِن أعمال القلوب هو معاصٍ قلبية يستحقُّ العقوبة عليها، كما يستحقُّه على المعاصى البدنية إذ هي مُنافية لعبودية القلب، فإن الكِبر والعُجب والرياء وظنَّ السوء محرَّمات على القلب، وهى أمور اختيارية يمكن اجتنابُها فيستحق العقوبة على فعلها، وهى أسماءٌ لمعان مسمياتها قائمةٌ بالقلب‏.‏

وأما العِتاق والطلاق، فاسمان لمسميين قائمين باللسان، أو ما نابَ عنه من إشارة أو كتابة، ولبسا اسمين لما في القلب مجرداً عن النطق‏.‏

وتضمنت أن المكلف إذا هَزَلَ بالطلاق، أو النِّكاح، أو الرجعة، لَزِمَهُ ما هَزَلَ به فدل ذلك على أن كلامَ الهازل معتبر وإن لم يُعتبر كلامُ النائم والناسى، وزائلِ العقل والمكرَه، والفرقُ بينهما أن الهازلَ قاصدُ للفظ غيرُ مريد لحكمه، وذلك ليس إليه، فإنما إلى المكلَّف الأسباب، وأما ترتُّبُ مسبَّباتها وأحكامها، فهو إلى الشارع قصده المكلفُ أو لمَ يقصِدْه، والعبرةُ بقصده السبب اختياراً في حال عقله وتكليفه، فإذا قصده، رتَّبَ الشارعُ عليه حُكمه جدَّ به أو هَزَلَ، وهذا بخلاف النائم والمُبَرْسَمِ، والمجنون والسكرانِ وزائل العقل، فإنهم ليس لهم قصد صحيح، وليسوا مكلفين، فألفاظُهم لغو بمنزلة ألفاظِ الطفل الذي لا يعقِلُ معناها، ولا يقصِدُه‏.‏

وسِرُّ المسألة الفرقُ بين من قصد اللفظ، وهو عالِم به ولم يُرد حكمه، وبين من لم يَقصِدْ اللفظ ولم يعلم معناه، فالمراتبُ التي اعتبرها الشارع أربعةُ‏.‏

إحداها‏:‏ أن يَقصدَ الحكم ولا يَتَلَفَّظ به‏.‏

الثانية‏:‏ أن لا يَقصِدَ اللفظ ولا حُكمَه‏.‏

الثالثة‏:‏ أن يَقْصِدَ دُون حكمه‏.‏

الرابعة‏:‏ أن يقصِدَ اللفظ والحكم‏.‏ فالأوليان لغو، والآخرتان معتبرتان‏.‏ هذا الذي أستُفِيدَ مِن مجموع نصوصه وأحكامِه، وعلى هذا فكلامُ المكرَه كُلُّه لغو لا عِبرةَ به‏.‏

وقد دلّ القرآن على أن من أُكْرِهَ على التكلم بكلمة الكفر لا يَكْفُرُ، ومن أكره على الإسلام لا يصيرُ به مسلماً، ودلَّتِ السنةُ على أن الله سبحانه تجاوز عن المكره، فلم يُؤاخِذْه بما أُكْرِهَ عليه، وهذا يُراد به كلامه قطعاً، وأما أفعالهُ، ففيها تفصيلٌ، فما أبيح منها بالإكراه فهو متجاوز عنه، كالأكل في نهار رمضان، والعملِ في الصلاة، ولبس المخيط في الإحرام ونحو ذلك، وما لا يُباح بالإكراه، فهو مُؤَاخذ به، كقتل المعصوم، وإتلافِ ماله، وما اختلف به كشُرب الخمر والزنى والسرقة هل يُحَدُّ به أو لا‏؟‏ فالاختلافُ، هل يباح ذلك بالإكراه أو لا‏؟‏ فمن لم يُبِحْه حدَّه به، ومن أباحه بالإكراه لم يحُدَّه، وفيه قولان للعلماء، وهما روايتان عن الإمام أحمد‏.‏

والفرق بين الأقوال والأفعال في الإكراه ؛ أن الأفعالَ إذا وقعت، لم ترتفعْ مفسدتُها، بل مفسدتُها معها بخلاف الأقوال، فإنها يمكن إلغاؤها‏.‏ وجعلُها بمنزلة أقوالِ النائم والمجنون، فمفسدةُ الفعل الذي لا يُباح بالإكراه ثابتة بخلاف مفسدة القول، فإنها إنما تثبت إذا كان قائلُه عالماً به مختاراً له‏.‏ وقد روى وكيع عن ابن أبى ليلى، عن الحكم بن عتيبة، عن خيثمة ابن عبد الرحمن، قال‏:‏ قالت امرأةٌ لزوجها‏:‏ سمنى، فسمَّاها الظبية، فقالت‏:‏ ما قلت شيئاً، قال‏:‏ فهاتِ ما أُسميك به، قالت‏:‏ سمنى خليةً طالقاً، قال‏:‏ أنت خَلِيَّةٌ طالق، فأتت عمر ابن الخطاب، فقالت‏:‏ إن زوجى طلَّقنى، فجاء زوجُها، فقصَّ عليه القصة، فأوجع عمر رأسَها، وقال لزوجها‏:‏ خذ بيدها، وأوجعْ رأسها‏.‏

فهذا الحكمُ من أمير المؤمنين بعدم الوقوع لما لم يقصد الزوجُ اللفظ الذي يقع به الطلاقُ، بل قصد لفظاً لا يُريد به الطلاق، فهو كما لو قال لأمتِه أو غُلامِه‏:‏ إنها جرة، وأراد أنها ليست بفاجِرة، أو قال لامرأته‏:‏ أنت مسرَّحة، أو سرحتُك، ومرادُه تسريح الشعر ونحو ذلك، فهذا لا يقع عتقُه ولا طلاقُه بينه وبينَ الله تعالى، وإن قامت قرينةٌ أو تصادقا في الحكم لم يقع به‏.‏

فإن قيل‏:‏ فهذا من أى الأقسام‏؟‏ فإنكم جعلتم المراتبَ أربعة، ومعلومٌ أن هذا ليس بمكرَه ولا زائل العقل، ولا هازل، ولا قاصدٍ لحكم اللفظ‏؟‏ قيل‏:‏ هذا متكلم باللفظ مريد به أحدَ معنييه، فلزم حكم ما أراده بلفظه دون ما لم يرده، فلا يلزم بما لم يرده باللفظ إذا كان صالحاً لما أراده، وقد استحلف النبىُّ صلى الله عليه وسلم رُكانَة لما طلَّق امرأته ألبتة، فقال‏:‏ ما أردتَ‏؟‏ قال‏:‏ واحدة، قال‏:‏ آللَّهِ، قال‏:‏ هو ما أردتَ، فقبل منه نيَّته في اللفظ المحتمل‏.‏

وقد قال مالك‏:‏ إذا قال‏:‏ أنت طالق البتة، وهو يُريد أن يحلِفَ على شىء ثم بدا له، فترك اليمين، فليست طالقاً، لأنه لم يُرد أن يطلقها، وبهذا أفتى الليث بن سعد، والإمامُ أحمد، حتى إن أحمد في رواية عنه‏:‏ يُقبل منه ذلك في الحكم‏.‏

وهذه المسألة لها ثلاثُ صور‏.‏

إحداها‏:‏ أن يرجع عن يمينه ولم يكن التنجيزُ مرادَه، فهذه لا تطلُق عليه في الحال، ولا يكون حالفاً‏.‏

الثانية‏:‏ أن يكون مقصودُه اليمينَ لا التنجيزَ، فيقول‏:‏ أنت طالق، ومقصودُه‏:‏ إن كلمت زيداً‏.‏

الثالثة‏:‏ أن يكونَ مقصودُه اليمينَ مِن أول كلامه، ثم يرجعُ عن اليمين في أثناء الكلام، ويجعل الطلاق منجزاً، فهذا لا يقعُ به، لأنه لا ينو به الإيقاع، وإنما نوى به التعليق، فكان قاصراً عن وقوع المنجز، فإذا نوى التنجيزَ بعد ذلك لم يكن قد أتى في التنجيز بغير النية المجردة، وهذا قولُ أصحاب أحمد‏.‏ وقد قال تعالى‏:‏‏{‏لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ في أَيْمَانِكُم ولكِنْ يُؤْاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 225‏]‏‏.‏

واللغو‏:‏ نوعان، أحدهما‏:‏ بأن يحلِفَ على الشىء يظنُّه كما حلف عليه، فيتبينُ بخلافه‏.‏ والثانى‏:‏ أن تجرى اليمين على لِسانه من غير قصد للحلف، كَلاَ واللَّهِ، وبَلَى واللَّهِ في أثناء كلامه، وكلاهما رفع الله المؤاخذة به، لعدم قصد الحالف إلى عقد اليمين وحقيقتها، وهذا تشريعٌ منه سبحانَه لعباده ألا يرتِّبوا الأحكامَ على الألفاظ التي لم يقصِدِ المتكلمُ بها حقائقَها ومعانيهَا، هذا غيرُ الهازل حقيقةَ وحكماً‏.‏

وقد أفتى الصحابةُ بعدم وقوع طلاق المكرَه وإقرارِه، فصحَّ عن عمر أنه قال‏:‏ ليس الرجلُ بأمينٍ على نفسه إذا أوجعتَه أو ضربتَه أو أوثقتَه، وصحَّ عنه أن رجلاً تدلَّى بحبل ليَشْارَ عسلاً، فأتت امرأته فقالت‏:‏ لأقطعنَّ الحبل، أو لتُطلِّقنى، فناشدها الله، فأبت، فطلَّقَها، فأتى عمر، فذكر له ذلك، فقال له‏:‏ ارجع إلى امرأتك، فإن هذا ليس بطلاق‏.‏ وكان علىُّ لا يُجيز طلاقَ الكره، وقال ثابت الأعرج‏:‏ سألت ابنَ عمر، وابنَ الزبير عن طلاق المكره، فقالا جميعاً‏:‏ ليس بشىءٍ‏.‏

فإن قيل‏:‏ فما تصنعون بما رواه الغازى بن جَبَلة، عن صفوان بن عمران الأصم، عن رجلٍ من أصحاب رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، أن رجلاً جلست امرأتُه على صدره، وجعلت السكينَ على حلقه، وقالت له‏:‏ طلقنى أو لأذبحنَّك، فناشدها، فأبت، فطلقها ثلاثاً، فذُكِرَ ذلك للنبى صلى الله عليه وسلم، فقال‏:‏ ‏(‏لا قَيْلُولَة في الطَّلاق‏)‏ رواه سعيد بن منصور في ‏(‏سننه‏)‏‏.‏ وروى عطاءُ ابن عجلان، عن عكرمة، عن ابن عباس، عن النبى صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏كُلُّ الطَّلاقِ جَائِزٌ إلاَّ طَلاقَ المَعْتُوهِ والمَغْلُوبِ عَلَى عَقْلِهِ‏)‏‏.‏

وروى سعيد بن منصور‏:‏ حدثنا فرج بن فضَالة، حدثنى عمرو بن شراحِيل المعافرى، أن امرأة استلَّتْ سيفاً، فوضعته على بطن زَوْجِهَا، وقالت‏:‏ واللَّه لأنفذنَّك، أو لُتطلِّقنِّى، فطلقها ثلاثاً، فرُفِعَ ذلِك إلى عمر بن الخطاب، فأمضى طلاقها‏.‏ وقال على‏.‏ كل الطلاقِ جائزٌ إلا طلاقَ المعتوه‏.‏

قيل‏:‏ أما خبر الغازى بن جبلة، ففيه ثلاث علل‏.‏ إحداها‏:‏ ضعف صفوان بن عمرو، والثانية‏:‏ لين الغازى بن جبلة، والثالثة‏.‏ تدليس بقية الراوى عنه، ومثل هذا لا يحتج به‏.‏ قال أبو محمد ابن حزم‏:‏ وهذا خبر في غاية السقوط‏.‏

وأما حديث ابن عباس ‏(‏كل الطلاق جائز‏)‏ فهو من رواية عطاء بن عجلان، وضعفُه مشهور، وقد رُمى بالكذب‏.‏ قال أبو محمد ابن حزم‏:‏ وهذا الخبر شر من الأول‏.‏

وأما أثر عمر، فالصحيح عنه خلافه كما تقدم، ولا يُعلم معاصرة المعافرى لعمر، وفرج بن فضالة فيه ضعف‏.‏

وأما أثر على، فالذى رواه عنه الناس أنه كان لا يُجيز طلاق المكره وروى عبد الرحمن بن مهدى، عن حماد بن سلمة، عن حُميد، عن الحسن، أن على ابن أبى طالب رضى الله عنه، كان لا يُجيز طلاق المكره‏.‏ فإن صح عنه ما ذكرتم، فهو عام مخصوص بهذا‏.‏

فصل

وأما طلاق السَّكرانِ، فقال تعالى‏:‏‏{‏يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاَةَ وأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 43‏]‏، فجعل سُبحانه قول السكران غيرَ معتبر، لأنه لا يَعْلَمُ ما يقولُ، وصحَّ عنه صلى الله عليه وسلم أَنَّه أمر بالمُقِرِّ بالزِّنى أن يُسَتنْكَهَ لِيعتبر قولُه الذي أقرَّ به أو يُلغى‏.‏

وفى صحيح البخارى في قصة حمزة، لما عَقَرَ بَعْيِرَىْ عَلى، فجاء النبىُّ صلى الله عليه وسلم، فَوَقَفَ عليه يَلُومُه، فصعَّدَ فيه النَّظرَ وصوَّبه وهو سكران، ثم قال‏:‏ هلْ أَنْتُمْ إلا عَبيدٌ لأبى، فنكص النبىُّ صلى الله عليه وسلم على عَقِبيْةِ‏.‏ وهذا القولُ لو قاله غيرُ سكران، لكان رِدةً وكُفراً، ولم يُؤاخذ بذلك حمزة‏.‏

وصح عن عُثمانَ بنِ عفان رضى الله عنه أنه قال‏:‏ ليس لِمجنون، ولا سكران طلاق‏.‏ رواه ابن أبى شيبة، عن وكيع، عن ابن أبى ذئب، عن الزهرى، عن أبان بن عثمان، عن أبيه‏.‏

وقال عطاء‏:‏ طلاقُ السكران لا يجوزُ، وقال ابنُ طاووس عن أبيه‏:‏ طلاقُ السكران لا يجوز‏.‏ وقال القاسم بن محمد‏:‏ لا يجوزُ طلاقه‏.‏

وصحَّ عن عمر بن عبد العزيز أنه أُتى بِسَكْرَان طلَّق، فاستحلفه باللَّهِ الذي لا إله إلا هو‏:‏ لقد طلَّقها وهو لا يَعْقِلُ، فحلف، فرَدَّ إليه امرأته، وضربه الحد‏.‏

وهو مذهبُ يحيى بن سعيد الأنصارى، وحُميدِ بن عبد الرحمن، وربيعة، والليثِ بن سعد، وعبدِ الله بن الحسن، وإسحاق بن راهويه، وأبى ثور، والشافعى في أحد قوليه، واختاره المزنىُّ وغيرُه من الشافعية، ومذهب أحمد في إحدى الروايات عنه، وهى التي استقرَّ عليها مذهبُه، وصرَّح برجوعه إليها ؛ فقال في رواية أبى طالب‏:‏ الذي لايأمر بالطلاق، إنما أتى خصلةً واحدة، والذي يأمر بالطلاق، فقد أتى خصلتيْنِ حرَّمها عليه، وأحلَّها لغيره، فهذا خيرٌ مِن هذا، وأنا أتقى جميعاً‏.‏ وقال في رواية الميمونى‏:‏ قد كنتُ أقولُ‏:‏ إن طلاق السكران يجوزُ تبينتُه، فغلب على‏:‏ أنه لا يجوزُ طلاقه، لأنه لو أقر، لم يلزمه، ولو باع، لم يجز بيعُه، قال‏:‏ وألزمه الجناية، وما كان من غير ذلك، فلا يلزمُه‏.‏ قال أبو بكر عبد العزيز‏:‏ وبهذا أقولُ، وهذا مذهبُ أهلِ الظاهر كُلِّهم، واختاره من الحنفية أبو جعفر الطحاوىُّ، وأبو الحسن الكرخىُّ‏.‏

والذين أوقعوه لهم سبعة مآخذ‏.‏

أحدُها‏:‏ أنه مكلِّف، ولهذا يُؤاخذ بجناياته‏.‏

والثانى‏:‏ أن إيقاع الطلاق عقوبةٌ له‏.‏

والثالث‏:‏ أنَّ ترتب الطلاق على التطليق مِن باب ربط الأحكام بأسبابها، فلا يُؤثر فيه السُكر‏.‏

والرابع‏:‏ أنَّ الصحابة أقاموه مقام الصَّاحى في كلامه، فإنهم قالوا‏:‏ إذا شرب، سَكِرَ، وإذا سَكِرَ، هذى، وإذا هَذَى، افترى، وحَدُّ المفترى ثمانون‏.‏

والخامس‏:‏ حديث‏:‏ ‏(‏لا قيلولة في الطلاق‏)‏ وقد تقدم‏.‏

السادس‏:‏ حديث ‏(‏كُلُّ طلاقٍ جائِز إلا طلاقَ المعتوه‏)‏، وقد تقدم‏.‏

والسابع‏:‏ أن الصحابة أوقعوا عليه الطلاق، فرواه أبو عُبيد عن عمر، معاوية، ورواه غيرُه عن ابن عباس‏.‏ قال أبو عبيد‏:‏ حدثنا يزيد بن هارون، عن جرير بن حازم، عن الزبير بن الحارث، عن أبى لَبيد، أن رجلاً طلَّق امرأتَه وهو سكران، فَرُفِعَ إلى عمر بن الخطاب، وشهد عليه أربعُ نِسوة ففرق عمر بينهما‏.‏ قال‏:‏ وحدثنا ابنُ أبى مريم، عن نافع بن يزيد، عن جعفر بن ربيعة، عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيِّب، أن معاوية أجاز طلاقَ السكران‏.‏ هذا جميعُ ما احتجوا به، وليس في شىء منه حجةٌ أصلاً‏.‏

فأما المأخذُ الأوَّلُ، وهو‏:‏ أنه مكلف، فباطل، إذ الإجماع منعقِدٌ على أن شرطَ التكليفِ العقلُ، ومن لا يعقِلُ ما يقول، فليس بمكلَّف‏.‏

وأيضاً فلو كان مكلفاً، لوجب أن يقع طلاقُه إذا كان مكرهاً على شُربها، أو غيرَ عالم بأنها خمر، وهم لا يقولون به‏.‏

وأما خطابُه، فيجب حملُه على الذي يعقِلُ الخطاب، أو على الصاحى، وأنه نُهى عن السكر إذا أراد الصلاة، وأما من لا يَعْقِلُ، فلا يُؤمر ولا ينهى‏.‏

وأما إلزامُه بجناياته، فمحلُّ نزاع لا محل وفاق، فقال عثمان البَتِّى‏:‏ لا يلزمُه عقدٌ ولا بيع، ولا حدٌّ إلا حدَّ الخمر فقط، وهذا إحدى الروايتين عن أحمد أنه كالمجنون في كُلِّ فعل يُعتبر له العقلُ‏.‏

والذين اعتبروا أفعالَه دونَ أقواله، فرَّقوا بفرقين، أحدهما‏:‏ أن إسقاطَ أفعاله ذريعةٌ إلى تعطيل القِصاص، إذ كُلُّ من أراد قتل غيره أو الزنى أو السرقة أو الحِراب، سَكِرَ وفعل ذلك، فيقام عليه الحدُّ إذا أتى جرماً واحداً، فإذا تضاعف جُرمُه بالسكر كيف يسقط عنه الحدُّ‏؟‏ هذا مما تأباه قواعدُ الشريعة وأصولها، وقال أحمد منكراً على من قال ذلك‏:‏ وبعضُ من يرى طلاق السكران ليس بجائز، يزعم أن سكران لو جنى جناية، أو أتى حداً، أو تركَ الصيام أو الصلاةَ، كان بمنزلة المْبَرسَمِ والمجنون، هذا كَلامْ سوء‏.‏

والفرق الثانى‏:‏ إن إلغاء أقواله لا يتضمَّن مفسدة، لأن القول المجردَ مِن غير العاقل لا مفسدة فيه بخلاف الأفعال، فإن مفاسدها لا يُمكن إلغاؤها إذا وقعت، فإلغاءُ أفعاله ضررٌ محض، وفسادٌ منتشر بخلاف أقواله، فإن صحَّ هذان الفرقان، بطلَ الإلحاق، وإن لم يصحا، كانت التسويةُ بين أقواله وأفعاله متعينة‏.‏

وأما المأخذ الثانى وهو أن إيقاع الطلاق به عقوبةٌ له ففى غاية الضعف، فإن الحدَّ يكفيه عقوبة، وقد حصل رضى الله سُبحانه من هذه العقوبة بالحد، ولا عهد لنا في الشريعة بالعُقوبة بالطلاق، والتفريق بين الزوجين‏.‏

وأما المأخذُ الثالث‏:‏ أن إيقاعَ الطلاق به من ربط الأحكام بالأسباب، ففى غاية الفساد والسقوط، فإن هذا يُوجب إيقاعَ الطلاق ممن سكر مُكرهاً، أو جاهلاً بأنها خمر، وبالمجنون والمُبَرْسَم، بل وبالنائم، ثم يُقال‏:‏ وهل ثبت لكم أن طلاقَ السكران سببٌ حتى يُربط الحكمُ به، وهل النزاعُ إلا في ذلك‏؟‏

وأما المأخذ الرابع‏:‏ وهو أن الصحابة جعلوه كالصاحى في قولهم‏:‏ إذا شرب، سَكِرَ، وإذا سَكِرَ، هذى‏.‏ فهو خبر لا يصح البتة‏.‏

قال أبو محمد ابن حزم‏:‏ وهو خبر مكذوب قد نزه الله علياً وعبد الرحمن بن عوف منه، وفيه من المناقضة ما يدل على بُطلانه، فإن فيه إيجاب الحد على من هذى، والهاذى لا حدَّ عليه‏.‏

وأما المأخذْ الخامس، وهو حديث‏:‏ ‏(‏لا قيلولة في الطلاق‏)‏، فخبر لا يَصِحُّ، لو صحَّ، لوجب حملُه على طلاق مكلِّف يعقِلُ دون من لا يعقِل، ولهذا لم يدخل فيه طلاقُ المجنون والمُبرْسَم والصبى‏.‏ وأما المأخذ السادس، وهو خبر‏:‏ ‏(‏كلُّ طلاق جائز إلا طلاق المعتوه‏)‏، فمثله سواء لا يصح، ولو صح، لكان في المكلف، وجواب ثالث‏:‏ أن السكران الذي لا يَعقِلُ إما معتوه، وإما مُلحق به، وقد ادعت طائفة أنه معتوه‏.‏ وقالوا‏:‏ المعتوه في اللغة‏:‏ الذي لا عقل له، ولا يدرى ما يتكلم به‏.‏ وأما المأخذ السابعُ‏:‏ وهو أن الصحابة أوقعوا عليه الطلاقَ، فالصحابةُ مختلفون في ذلك، فصح عن عثمان ما حكيناه عنه‏.‏

وأما أثر ابنِ عباس، فلا يَصِحُّ عنه، لأنه من طريقين، في أحدهما الحجاج بن أرطأة، وفى الثانية إبراهيم بن أبى يحيى، وأما ابنُ عمر ومعاوية، فقد خالفهما عثمان بن عفان‏.‏